الوطن كما جاء في لسان العرب "المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله... ووطنَ بالمكان وأوطنَ أقامَ... وأوطنتُ الأرضَ ووطنتُها توطينًا استوطنتُها"، أي التي يعيش فيها وينتمي إليها.
ويستوطن الانتماء والولاء للمكان في مشاعر الإنسان وأحاسيسه، فالوطن ذلك المحفور في الذاكرة، ذكريات الصبا وعبق الأرض، ظل يلازم الشاعرة الأعرابية ميسون بنت بحدل– زوج معاوية بن أبي سفيان وأم ابنه يزيد- التي تعلقت بالحياة الفطرية وشظف العيش وعويل الرياح، ونباح الكلاب، فضَّلت ذلك على عيش الترف والقصور، فجاءت المقارنة فريدة من نوعها؛ رسمت لوحتين على طرفي نقيض، في قولها:
لَبيتٌ تخفقُ الأرواحُ فيه *** أَحَبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
وكلبٌ ينبحُ الطُّرَّاقَ عني *** أَحَبُّ إليَّ من قطٍ ألوفِ
ولُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني *** أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشفوفِ
وأكلُ كُسَيْرةٍ في كِسْرِ بيتي *** أَحَبُّ إليَّ من أكلِ الرَّغيفِ
وأصواتُ الرياحِ بكلِّ فجٍ *** أَحَبُّ إليَّ من نَقرِ الدفوفِ
وخِرقٌ من بني عمي نحيفٌ *** أَحَبُّ إليَّ من عِلجٍ عليفِ
خشونةُ عيشتي في البدوِ أشهى *** إلى نفسي من العيشِ الطَّريفِ
فما أبغي سِوى وطني بديلًا *** فحسبي ذاكَ مِنْ وطنٍ شريفِ
كانت ميسون بنت بحدل بدوية، لما تسرّى عليها معاوية ضاقت نفسُها، فعذلها معاوية على ذلك، وقال لها: أنتِ في ملكٍ عظيم وما تدرين قدَره، وكنتِ قبل اليوم في العباءةِ. فقالت هذه الأبيات، فلما سمعها قال لها: ما رضيتِ يا ابنةَ بحدل حتى جعلتني علجًا عليفًا، فالحقي بأهلكِ! فطلقها وألحقها بأهلها، وقال لها: كنتِ فبنتِ! فقالت: لا والله ما سُررنا إذ كُنّا، ولا أسْفنا إذ بِنَّا . ويقال إنها كانت حاملًا بيزيدَ فولدته هنالك، ولهذا كان يزيدُ فصيحًا حيث نشأ عند أخواله. وفيه تقول:
إن يزيدَ خيْرُ شبَّانِ العرَبْ *** أحلَمُهمْ عند الرِّضا وفي الغضبْ.
تلك هي ميسون ابنة البادية وعاشقة الصحراء، تفجّرت شاعريتها بهذه الأبيات حين عيرها زوجها الخليفة ببداوتها وشظف عيشها وخشونته، فلم تجزع، ولم ترَ فيه ضيرًا، بل اعتبرت ما عيرها به فخرًا واعتزازًا بالبداوة والحياة في إطارها البكر، حيث الطبيعة الساكنة، والحياة الوادعة، والناس البسطاء.
يستوطن الانتماء والولاء للمكان في مشاعر الإنسان وأحاسيسه، فالوطن ذلك المحفور في الذاكرة، ذكريات الصبا وعبق الأرض
ويتراءى في الأبيات إصرار الشاعرة على نمط حياتها في البادية، وتفضيله على حياة الترف والنعيم في بلاد الشام، حيث الخليفة وقصر الخلافة، والثراء بكل أشكاله وألوانه، ويبدو هذا الإصرار في تكرارها أفعل التفضيل (أَحَبُّ) عبر المراوحة بين ما تجده في حياة البادية، وما تجده في حياة الحاضرة.
تمثل تلك الأبيات "صورة من صور الحب للأرض، والولاء للوطن والمنبت، بالإضافة إلى تجسيدها خواطر نفسية حملت سمات الشاعرة وسجاياها، فنفسها الشفافة الصافية تجلت في إيثارها العيش في البادية بصفائها وهدوئها وأصالة أهلها، على حياة المدن بصخبها وضجيجها وزيف أهلها.
وتراءت نفسها البسيطة الهادئة، في تفضيلها العباءة الخشنة البسيطة، على الملابس الحريرية الباذخة، واتضحت رباطة جأشها في استئناسها بصوت الكلب المفزع، على القط الأليف الناعم، وعبرت عن صبرها إزاء الحياة الخشنة القاسية بقناعتها بكسرة الخبز الجافة على الرغيف الشهي والطعام اللذيذ، ثم تجلّى اعتزازها ببني قرابتها في إيثارها الزواج من ابن العم الكريم الشمائل على الزواج من الرجل الغريب، حتى ولو كان هذا الزوج صاحب حكم وسلطان".
تظل عدوى حبّ نجدٍ تسري في الشعر سريان اليخضور في الأوراق اليانعة، فلا يستقرُ الشاعر حتى يذكر نجدًا، ولا تنتظم القصيدة حتى تصافحه
ومما يؤكد تعلق ميسون بالبادية؛ أنها ما انفكت– حين كانت لا تزال تعيش في بلاد الشام– تذكر نجدًا موطنها الذي فارقته فقذفتْ بها الأقدار بعيدًا عنه، حيث تطوفُ بها ذكرى عالمها وما يجري فيه من شؤون يومية مألوفة كأحاديث الرعاة، والخيام، وماء العُذَيْبِ وبردِ حصاه (وهو ماء لبني تميم في نجد)، إنها أمور قد لا يفكر بعض الناس فيها، ولا يقفون عندها، لكنها بالنسبة إلى ميسون أمورٌ هامة تثير فيها مشاعر الشوقِ والحنينِ، تلك التي تزدحمُ في صدرها فلا يخففُ من سطوتها سوى الأنين الذي تجد فيه سلواها وعزاءها، فيمنحها قدرةً على تحمل قسوة العيش بعيدًا عن عالمها المحبب إلى نفسِها، فتئنُ أنَّـتينِ أنـَّـة عند العشاء، وأخرى عند السحر، وتلكما الأنــَّـتان هما اللتان تخففان عنها ما تجدُه من ألم الفراق وإلا لأصابها الجنون، وها هي تعبر عن حالها حين يستبد بها الشوق ويضنيها الحنينُ وتعصفُ بها الذكرى بقولها:
وما ذنبُ أعرابيةٍ قذفتْ بها *** صروفُ النوى من حيثُ لم تكُ ظنتِ
تمنتْ أحاديثَ الرعاةِ وخيمةً *** بنجدٍ فلم يُقْضَ الذي قد تمنتِ
إذا ذكرتْ ماءَ العُذَيْبِ وطيبَهُ *** وبردَ حصاهُ آخرَ الليلِ أنَّتِ
لها أنَّــةٌ عند العشاءِ وأنَّــةٌ *** سُحَيرًا ولولا أنــَّـتاها لـَجُــنَّتِ
وتظل عدوى حبّ نجدٍ تسري في الشعر سريان اليخضور في الأوراق اليانعة، فلا يستقرُ الشاعر حتى يذكر نجدًا، ولا تنتظم القصيدة حتى تصافحه، ومن هذا قول الشاعر:
إنْ تُتهمي فتهامةُ وطني *** وإنْ تُنجدي يكُنِ الهوى نجدُ.