في تعقيب على أعمال الشغب التي اندلعت في فرنسا، طالبت الأمم المتحدة السلطات الفرنسية بمعالجة مشكلات العنصرية والتمييز في صفوف قوات الأمن. وقالت المتحدثة باسم "مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان" رافينيا شمداساني في تصريح يوم الجمعة الفائت: "حان الوقت ليعالج هذا البلد مشكلات العنصرية والتمييز المتجذّرة في صفوف قوات الأمن".
هذا التصريح الصادر عن أرفع منظمة إنسانية منبثقة عن المؤسسة التي كانت فرنسا من مؤسسيها، ولا تزال الى اليوم تتمتع بحق النقض فيها، يختصر الكثير. فهو يضع الإصبع على الجرح بالتركيز على تجذّر العنصرية، وأنها ليست سلوكاً طارئاً. لكنه في الوقت عينه يعتبر تصريحاً دبلوماسياً جداً لأنه يقصر هذا السلوك المشين على جهاز الشرطة فقط، في حين أن العنصرية صارت في السنوات الأخيرة ثقافة متجذرة لدى النخب السياسية الفرنسية. وهذه الثقافة لم تكن لتقوى وتسود لدى شرائح مجتمعية واسعة لولا أنها تنهل من منابع السياسة، وتعبر عن توجهات تلك النخب.
وحسب دراسة نشرها "المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية" في وثيقة بعنوان "المهاجرون وأحفاد المهاجرين في فرنسا"، فإن ما نسبته 10.3 % من سكان فرنسا عام 2021 مهاجرون، أي ما يوازي نحو 7 ملايين نسمة، مقارنة بنسبة 6.5 % عام 1968. وبينت الدراسة أيضاً أن المهاجرين في فرنسا هم أكثر ارتباطاً بالدين من بقية السكان، وأن الإسلام يحتل المرتبة الأولى في ذلك. كما بينت أيضاً أن النسبة الأكبر من المهاجرين هم المغرب العربي وشمال أفريقيا.
ويرتفع احتمال تعرض شاب يُنظر اليه على أنه أسود أو عربي الى تدقيق أمني بعشرين ضعفاً عن غيره، وذلك وفق تقرير صادر عن "هيئة المدافع عن الحقوق" الفرنسية عام 2017.
مقدّمات معبّرة
قبل أيام قليلة فقط، خرج وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمنان بتصريح قال فيه إن "الإرهاب السني هو أبرز تهديد لفرنسا وأوروبا"، فإذا كان رأس التشكيلات الأمنية كلها على اختلاف أدوارها ومسمياتها يتحدث هكذا، فلا يجب أن نستغرب سلوكيات عنصرية من أركان وأفراد منظومة الشرطة الفرنسية، لاسيما وأن حادثة الشاب نائل المرزوقي ليست الأولى من نوعها، بل هي سلوكيات متكررة. وفي كل مرة يجري التعامل مع ما يحصل من قبل القضاء الفرنسي بطريقة تنطوي على الكثير من الاستخفاف الممزوج بالموافقة الضمنية.
وظاهرة الإسلاموفوبيا التي تضخّمت بشدة عقب أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأميركية، هي التي أطلقت العنان لمشاعر الكراهية تجاه مجتمعات المهاجرين في فرنسا، والتي كانت خجولة أو مكبوتة الى حد بعيد. وكان قانون منع الرموز والملابس التي تعبّر بشكل ظاهر عن الانتماء الديني في المدارس والمعاهد الرسمية، الذي أقرّته الجمعية الوطنية مطلع عام 2004، هو المؤشر الأوضح على مدى نمو المشاعر العدائية تجاه المسلمين خاصة والمهاجرين بصفة عامة.
ومع أن هذا القانون أقرّ في عهد الرئيس جاك شيراك الذي كان يوصف بـ"صديق العرب والمسلمين"، إلا أن المحرّك الأبرز له كان الرجل القوي في اليمين الفرنسي الحاكم وزير الداخلية نيكولا ساركوزي، والذي كان يستعد للترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية عام 2007، بشعارات يمينية متطرفة وخطاب شعبوي.
لذا لم يكن تفصيلاً تزامن تصاعد موجة العنصرية في فرنسا مع صعود نجم ساركوزي، وخطابه السياسي اليميني ذي النزعة المتطرفة والذي يركز على مكافحة ظاهرة الهجرة وصولاً الى اقتراحه إنشاء وزارة "الهجرة والهوية الوطنية" لحماية قيم الجمهورية الفرنسية.