انتهى موسم الحج ونجحت خططه بكل تفاصيلها لتضاف إلى نجاحات المملكة العربية السعودية وخبراتها المتراكمة في إدارة هذا الحدث العالمي الضخم.
لعل أجمل ما في تجربة الحج أنها لا تنحصر في تأدية الهدف الأسمى (أداء الفريضة) إنما، ومن ضمن هذه المحصلة الرئيسة، تعد فرصة لتمكين الصلات بين مختلف البشر وتقويتها لتحقيق تجربة نفسية واجتماعية لا تُنسى لدى كلّ من يخوضها. فخبرة التواصل الإنساني في بقعة واحدة، بمثل عظمة الحرم المكي وقدسيته، والتفاعلات الإنسانية أثناء تأدية مناسك الحج، تشكلان تجربة وجودية وإيمانية وإنسانية وثقافية فريدة من نوعها.
فخلال هذه التجربة المميزة، يكتشف الحجاج قيمة الجماعة، وتماسكها، في ظل الالتفاف حول هدف روحانيّ يجعل بقية الانتماءات أو الهويات تضمحل. فالهوية الدينية المشتركة خلال أيام الحج المعدودة هي بمثابة اختبار إنساني حقيقي لقيمة التماسك ودور الهوية في تحقيق هذا التماسك، حيث نرى في الوقت نفسه أن مختلف الجماعات تحرص على أعضائها وترعاهم وسط الحشود والتجمعات الأخرى. فالبشر مصممون ليكونوا منتمين إلى جماعة، يقول غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير": "من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، عزل السلوك الفردي عن الوسط الاجتماعي - الثقافي المحيط به". على الرغم من بعض الصحة في هذه العبارة، إلا أن للحج خصوصيته وقد يغير كثيرا من المفاهيم المرتبطة بعلاقة الفرد بجماعته الثقافية أو العرقية.
إن صحة الفرد ورفاهه يتشكلان بعمق من خلال انتماء الشخص إلى جماعة محددة، فالانتماء إلى جماعة داعمة في ظرف مثل شد الرحال لتأدية ركن من أركان الإسلام، يعرفه علماء النفس الاجتماعي باسم "العلاج الاجتماعي"، فهو يجعل الناس أكثر صحة وسلامة نفسية وشعورا بالأمان. لكن كيف تعمل المجموعات المتعددة المرجعيات في تقديم هذا العلاج الاجتماعي بعضها إلى بعض خلال تأدية المشاعر الدينية في موسم الحج؟ وكيف يعمل هذا التوحد الجديد على تحقيق صحة الفرد ورفاهيته؟
الحج قادر على تغيير التصورات النمطية، وإحداث تفاعلات إيجابية مع الآخرين المختلفين، فيه يتحرّر الأفراد من الطائفة أو المذهب أو الجنس أو العرق، ليتعايشوا في بيئة جديدة، يرتدون فيها لباسا موحدا، ويمارسون شعائر جماعية
الحج قادر على تغيير التصورات النمطية، وإحداث تفاعلات إيجابية مع الآخرين المختلفين من خلال توفير بيئة تعاونية للتفاعل وممارسة الطقوس المشتركة التي تحدد وجود هوية مشتركة وتؤكدها. فيه يتحرّر الأفراد من الطائفة أو المذهب أو الجنس أو العرق، ليتعايشوا في بيئة جديدة، يرتدون فيها لباسا موحدا، ويمارسون شعائر جماعية، ويخضعون لتجربة ترابط مكثف. فتجربة الحج تساهم في الحفاظ على التماسك والوحدة والتصدي للانقسامات التي تحدثها التحديات الخارجية، وقد أثبت الحج قدرته على نقل رسالة عن التسامح والتآخي حتى في خضم أكثر المواجهات والتفاعلات انقساما، إذ يمكّن لغة التواصل والاختلاط بين جماعات متعددة القوميات والعرقيات والطوائف. وإذا كان هناك درس واحد يمكن استخلاصه من الحج، فهو أن الجسور تشيد والجدران تقيد وتعزل.
فالدور الاجتماعي الذي يؤدّيه الحج، من خلال الهوية الدينية والروحانية، ينفي فرضيات الانقسام والتباعد، ويرسخ مبدأ التعايش المشترك. والرسالة التي تسمو فوق كلّ شيء التي ينقلها كل حاج إلى بلده وثقافته ومجتمعه، لهي خير برهان على أن الحج الذي فاضت إليه جموع المسلمين من كل حدب وصوب، يقدم دليلا ملموسا، على قدرة الناس على التوحّد والتعاون والانسجام، حين يجمعهم هدف سام مشترك، وحين يجتمعون بقلوب صافية نقية على الفطرة السليمة وروح البذل والعطاء والتواضع والإخاء، بعيدا عما يفرّقهم عادة من أهواء طائفية أو عرقية أو مصالح سياسية ضيقة.