تنطوي مفاهيم ومصطلحات غربية على التباسات متنوعة. بعضها نظري يعود إلى اختلاف في فهم دلالاتها حتى في سياقها الغربي. وبعضها واقعي يظهر بوضوح أكثر عند نقل أحدها من سياقه الغربي إلى سياقات أخرى.
يبدو هذا الالتباس واضحا الآن بشأن مفهوم الميليشيا الذي شاع استخدامه في الأسابيع الأخيرة إثر تمرد مجموعة "فاغنر" في روسيا، وقبلها مباشرة "قوات الدعم السريع" في السودان.
ويعود الالتباس لأسبابٍ أهمها الاختلاف على تعريف كل منهما. فهل يمكن اختزال هذه أو تلك في واحدة فقط من وظائفها، وهي القتال مقابل أجر يحصل عليه مقاتلوها، سواء من حكومة الدولة التي توجد بها أو حكومات وأطراف أخرى، على نحو يجعلهم مرتزقة، أم يتعين أن تكون النظرة أوسع وأشمل؟
لقد حُمّل مفهوم الميليشيا في السياق العربي بدلالة سلبية تجعله تعبيرا في بعض الأحيان عن الصورة التي رُسمت لمنظمة فلسطينية نشطت في السبعينيات والثمانينيات، وما زال الغموض يكتنف الكثير من جوانبها، وهي صورة الجماعة المأجورة حسب التعبير الذي اختاره باتريك سيل لكتابه المشهور عنها "أبو نضال– بندقية للإيجار".
لكن هذا الاستخدام لمفهوم الميليشيا يختلف عن معناه في القواميس العربية، وهو الأقرب إلى أصوله في العلم، كما في التاريخ. فالميليشيا، في معجم المعاني الجامع، هي قوة مسلحة تتكون من مواطنين، إما للدفاع عن الوطن، أو لمواجهة تعسف من جانب حكومة أو جيش نظامي أو أغلبية متعصبة.
الالتباس واضح الآن بشأن مفهوم الميليشيا الذي شاع استخدامه في الأسابيع الأخيرة إثر تمرد مجموعة "فاغنر" في روسيا وقبلها مباشرة "قوات الدعم السريع" في السودان
ولهذه الدلالة المزدوجة أصل في التاريخ الحديث. فقد استخدم مفهوم الميليشيا بمعنى القوة الموازية للجيش في التعديل الأول للدستور الأميركي الذي نص عام 1791 على أن "الميليشيا المنظَّمة تنظيمًا جيدًا ضرورية لأمن دولة حرة". وبموجب ذلك التعديل كان وجود ميليشيات في ولايات أو مدن أو بلدات مُنظّما في إطار القانون، إلى أن دُمج ما بقى منها في إطار الحرس الوطني عام 1916.
لكن لم تمض عقود قليلة حتى ظهرت ميليشيات يمينية مناهضة، هذه المرة، للحكومة الفيدرالية. وصار وجودها مثيرًا للقلق بعد تماهيها مع الحالة التي خلقها ظهور دونالد ترامب في الساحة السياسية، وعدم اعترافه بنتيجة الانتخابات الرئاسية في 2020.
الميليشيا، إذن، يمكن أن تكون قوة شبه نظامية تعمل في إطار الدولة، وقد تصبح بمثابة جيش موازٍ مُقنَّن يؤدي وظائف مُحدَّدة. ولكنها تبقى، حتى في ذروة ارتباطها بسلطة الدولة، قابلة للتمرد إما بسبب أثر تكوينها الأصلي غير النظامي، أو نتيجة تناقضٍ قد يصعب تجنبه مع الجيش الرسمي. وقد يتفاقم هذا التناقض لأحد سببين أو لكليهما. فقد تتنامى قوتها وتصل إلى مستوى يدفعها للسعي إلى الحصول على مكاسب أكبر. وقد تضيق قيادة الجيش بها، فتحاول إضعافها أو إخضاعها. وهذا هو السياق الذي حدث فيه تمرد مجموعتي "فاغنر" و"الدعم السريع" اللتين تمتع كل منهما بمركز قانوني محدَّد، وارتبط بعلاقة وثيقة مع سلطة الدولة، على نحو جعلهما أقرب إلى جيشين موازيين.
مجموعة "فاغنر" مُسجَّلة باعتبارها شركة أمنية عسكرية أُسست عام 2014، وبدأت نشاطها في شرق أوكرانيا مطلع 2014 على أساس اتفاقات وعقود مع الحكومة الروسية ممثلةً في وزارة الدفاع، ونشطت بعد ذلك في سوريا. وتنامى دورها مع تولي يفغيني بريغوجين رئاستها. وهكذا عملت فاغنر من البداية تحت مظلة الحكومة، بخلاف شركات أمنية كثيرة أخرى معظمها صغير في روسيا.
وتمتعت قوات الدعم السريع بوضع أقوى في السودان، منذ تشكيل أساسها الأول "الجنجويد" للقتال نيابة عن الحكومة في دارفور، ثم أعيدت هيكلتها تحت اسم قوات الدعم السريع، وأعُطيت مهمات عسكرية وأمنية في عموم البلاد، وخاصة في المناطق الحدودية. وبلغ دورها ذروته في السنوات الأخيرة حين أصبح قائدها محمد حمدان دقلو نائب رئيس مجلس السيادة، أي الرجل الثاني في الدولة.
ولكن هذا كله لم يمنع تمرد فاغنر والدعم السريع. فقد أغرى النجاح الذي حقَّقته مجموعة فاغنر في بعض جبهات القتال في أوكرانيا، والثمن الباهظ الذي دفعه مقاتلوها في معركة السيطرة على باخموت بصفة خاصة، زعيمها بريغوجين بالتصعيد حين لم يجد تقديرا يُذكر لهذا النجاح. ويبدو أن نجاح فاغنر رفع في الوقت نفسه منسوب الضيق بها لدى قيادة الجيش إلى أعلى مستوى، إذا صح ادعاء بريغوجين بشأن عدم إمداد قواته بقذائف كافية وهو ما تتوافر شواهد عليه، وثبتت صحة تقارير أفادت بأن بعض معسكراته قّذفت بنيران صديقة زُعم أنها كانت بطريق الخطأ، وهو ما لا توجد أدلة أو قرائن عليه بعد.
مجموعة "فاغنر" مُسجَّلة باعتبارها شركة أمنية عسكرية أُسست عام 2014، وبدأت نشاطها في شرق أوكرانيا مطلع 2014 على أساس اتفاقات وعقود مع الحكومة الروسية ممثلةً في وزارة الدفاع، ونشطت بعد ذلك في سوريا
أما قوات الدعم السريع فكان تنامي طموح قيادتها وراء إصرار قيادة الجيش النظامي على التعجيل بدمجها فيه، إما سعيا لتحجيمها بعد أن بلغ حجمها مبلغا كبيرًا، وإما محاولةً للاستئثار بالسلطة والنفوذ في مرحلة انتقال جديدة بالغة الصعوبة في السودان. فكان التمرد هو خيار قيادة "الدعم السريع"، وكأن لسان حالها يقول إما كل شيء وإما لا شيء.
ورغم أن ثمة ما يجمع "فاغنر" و"الدعم السريع" بشأن دوافع تمرد كل منهما، فقد أدى هذا التمرد إلى نتيجتين مختلفتين كثيرًا؛ أعلن انتهاء تمرد فاغنر بعد ساعات، دون وجود ما يقطع بأن الصفقة الغامضة التي أُبرمت بين بوتين وبريغوجين بوساطة رئيس بيلاروسيا أسدلت الستار على الأزمة الأخطر في روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفياتي السابق. ففي "الصندوق الأسود" لهذا التمرد ما لم يكشف النقاب عنه بعد، وما قد يُغّير بعض أنماط التفاعلات السياسية والعسكرية في روسيا، بعد أن اهتز مركز بوتين كما لم يحدث على مدى ما يقرب من ربع قرن.
أما تمرد "الدعم السريع" فما زال مستمرا، والقتال الذي ترتب عليه ما زال متواصلاً، على نحو يجعل الوضع في السودان مفتوحا على سيناريوهات تتراوح بين السيئ والأسوأ.
نتيجتان مختلفتان, إذن، لتمردين يُعدان من أهم أحداث 2023. لكن يجمعهما، فضلاً عن دوافعهما، أن الجماعات المسلحة التي تتحول إلى جيوش موازية تُمثّل خطرا كامنا قد يفوق أخطار الميليشيات المناوئة للحكومات. فتمرد الأقربين إذا حدث قد يكون أخطر من تمرد الأبعدين المتمردين أصلا.