عالم الكتابة من أكثر العوالم ثراءً واتساعا، سواء أكانت كتابة الرواية أو القصة أو الشعر، كلما قرأت واطلعت وغصت أكثر في هذا العالم، أدركت اتساعه، ولعل أكثر ما يعرفك إلى هذه العوالم واختلافاتها هي الكتب التي وضعت حول الكتابة سواء لتوضيح مهاراتها أو أدواتها وطرق التعامل معها، أو الحكايات التي يحكيها الكتّاب عن علاقتهم بالكتابة، والتي تحمل من جهة أخرى أسرارا مختلفة.
1. البيان والتبيين
تناول كبار الأدباء العرب منذ بدايات عصر التدوين موضوع الكتابة الأدبية التي عرفوها باسم "البيان"، ولا يذكر البيان إلا ذكر عمدته وإمامه الكبير أبو عثمان الجاحظ (ت: 868م) صاحب الكتاب الأيقوني "البيان والتبيين"، وقد طرح من خلاله مفهوم الكتابة الأدبية وآلياتها وجمالياتها، وذلك من خلال ما سماه نظم العبارات وبناء الجمل واختيار الألفاظ ونحت المعاني، فهو صاحب المقولة الشهيرة "إن المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ". وقد جاء كتابه في ثلاثة أجزاء، جعل الأول في "البيان" ويقصد به كل ما يكشف المعنى ويوضحه، فتحدّث فيه عن أنواع الدلالة، والمعاني واختلافها من العظيم المهم إلى الحقير الفاسد، والبلاغة وكيف وصفها العرب وكيف تحدثوا عن أنواعها في بناء الجمل والكلمات، وفي نهاية كل جزء يعرض لطرف من أقوال البلغاء والخطباء على سبيل المثل.
في الجزء الثاني يتناول الجاحظ ما سماه "باب اللحن" وهو الخطأ في اللغة، لكنه ينقل عن بعض الخطباء كيف يكون لحنهم مقصودا وبليغا في الوقت نفسه، كما يتحدث عن اختلاف المعاني تبعا للهجات القبائل أو المناسبات التي ترد فيها، وغير ذلك بشواهد شعرية من سير المتحدثين والخلفاء والأمراء وعلماء اللغة والبلاغة وعدد من خطبهم وأقوالهم في مواقف مختلفة،
وفي الجزء الثالث من الكتاب يقدّم حديثه عن سنن الخطابة العربية، ويتحدّث عن الأسماء التي وضعتها العرب للأزياء، ثم ينتقل إلى الحديث عن الزهد، ويختم الكتاب بفصل عن نقد الشعر والشعراء. هكذا يخوض الكتاب في أكثر من فكرة وموضوع، وهو على الرغم من عنوانه وما بدا من حرص مؤلفه على الحديث عن "البيان" وأهمية تركيز الأديب على فنون الأدب والبلاغة، تشعب وانتقل إلى مواضيع أخرى عديدة، مما جعله مرجعا للعديد من النصوص والكتابات الأدبية العربية.