"نحن وهُم" في الأزمة الفرنسية

"نحن وهُم" في الأزمة الفرنسية

هناك قراءات مبسّطة وأخرى معقدة لما شهدته فرنسا من جرائم وفوضى في الأيام الماضية. فمن التبسيط القول إن هؤلاء عرب ومسلمون، وهم رعاع لا يستحقون الحياة في فرنسا، وإن الواجب هو الضرب بيد من حديد لاستعادة هيبة الدولة. ومن التبسيط أيضا رأي من جعلوها حربا دينية أو قومية على الرغم من أن المشاركين في أعمال الشغب فرنسيون، أغلبهم يعتبرون فرنسا بلدهم الأم ويحملون جنسيتها، وهم من الجيل الرابع أو الخامس من المهاجرين، وربما لم يزر الواحد منهم بلد والديه يوما، كما أوضح عدد من المعلّقين الجزائريين والفرنسيين. مع هذا، لن نعدم من يأتي مطالبا برفع راية الجهاد في فرنسا، على الرغم من أن هذا الجيل لا يعرف الكثير عن الإسلام، ونسبة عالية منه اقترنت من خلال الزواج المختلط بنمط الحياة الفرنسية، بصورة كاملة، على خلاف الجيلين الأول والثاني من المهاجرين.

في 2022 شاهدنا فيلما سينمائيا فرنسيا أخرجه وشارك في كتابته رومان غافراس، وسمّاه "أثينا" لأنه أراد أن يقدّم ملحمة استباقية، يونانية الطابع، عن الوطن ومأساته


الحديث في هذه القضية أشبه بالولوج في عش دبابير، لكن من الواضح أن أهل فرنسا والمقيمين على أرضها هم أعلم الناس بما يجري في بلادهم اليوم إلى درجة أنهم كانوا يتوقعون هذه الكارثة قبل أن تقع. في 2022 شاهدنا فيلما سينمائيا فرنسيا أخرجه وشارك في كتابته رومان غافراس، وسماه "أثينا" لأنه أراد أن يقدّم ملحمة استباقية، يونانية الطابع، عن الوطن ومأساته، وعن الشرّ الذي يرى العقلاء تغلغله فيه. أثينا هو اسم لمجمّع سكني يُقتل فيه شاب يافع من أحفاد المهاجرين المنحدرين من شمال أفريقيا على يد أحد أفراد الشرطة، وتعلن وزارة الداخلية عجزها عن تحديد هوية ذلك الشرطي، فتشتعل الثورة في كل أنحاء البلاد، ويشارك فيها بشكل فاعل، شقيق القتيل، فيما يحاول شقيق آخر، وهو فرد من أفراد الجيش الفرنسي، أن يمسك بالعصا من الوسط، وثمة شقيق رابع في الشرطة يتذبذب موقفه بين الطرفين.

إلا أن أحداث الفيلم، التي تتشابه مع ما رأيناه واقعا خلال الأيام الماضية، تتفاقم حتى يكثر السطو والسلب والسرقة ونهب مراكز الشرطة والعنف والفوضى وانعدام النظام، لتبدو بداية حرب أهلية. بل يرفع الثوار عقيرتهم باسم الحرب والرغبة في الانتصار وأنهم شكّلوا جيشا مضادا ولا رجعة فيه عن الحرب حتى تقام العدالة على القتلة، ولا تلبث الأحداث تتفاقم إلى أن يُقتل الشقيق الأوسط أيضا مما يجعل شقيقه يندفع بدوره بحثا عن الانتقام.

يصوّر الفيلم، في طبيعة الحال، دور وسائل التواصل الاجتماعي في تأجيج المشكلة، وفي عودتها إلى التشكيك في أن القتلة ربما لم يكونوا من الشرطة الحقيقيين. شبكات التواصل يمكن أن تكون وسيلة تضليل وإرباك كبرى.

لا شرق ولا غرب ولا جنوب ولا شمال، وواجب الجميع إزالة "هُم" بحيث تبقى فقط "نحن" وليس طرفا واحدا من الأطراف


لا يغفل هذا العمل الدرامي القريب من الواقع للغاية إدانة اليمين الفرنسي المتطرّف ودوره في صبّ الوقود على النار. حتى حين يطالب باستعادة النظام وتطبيق القانون، لا ينفك عن وصف الأحياء التي يكثر فيها العرب بأنها مناطق يحكمها "الدواعش" وتجار المخدرات.

هل توجد عنصرية في فرنسا، وتمييز في فرص العمل، وبطالة، وجرائم للشرطة؟ بالتأكيد، نعم. هل حلّ هذه المشكلات ممكن من طريق العنف ونهب الممتلكات؟ بالتأكيد، لا. العنف لن يزيد الأمور إلا سوءا.

إنه خطاب نحن وهُم، وقد تسلل إلى قضية فرنسية/فرنسية، مثلما كان مقتل جورج فلويد قضية أميركية/أميركية. وفي طبيعة الحال، ستستعيد الدولة هيبتها وستسيطر على الوضع وستتوقف الأزمة حتى حين. نحن وهُم، هي المشكلة وهي الحل أيضا. مع أنه لا يوجد في الحقيقة نحن وهُم. فالكل مواطن في دولة مدنية لا دينية. والأمر يشبه الجهات الأربع، حين تتخيل أنك في الغرب، وتكتشف أن للغرب غربا، حتى تعود إلى حيث بدأت، إلى ما تسميه بالشرق. لا شرق ولا غرب ولا جنوب ولا شمال، وواجب الجميع إزالة "هُم" بحيث تبقى فقط "نحن" وليس طرفا واحدا من الأطراف.

font change