نعيش مع الآلات منذ الولادة، وفي مختلف الأمكنة والأعمار والأزمان؛ إنّها حولنا، وفي داخلنا، تُحاصرنا، ونُحاصرها، نقبلها وتقبلنا، نرفضها ولا ترفضنا.. فالعيش معها يُلازمنا أكثر من ظلالنا بل وأكثر من أعضائنا وحواسنا أحيانا. وهذا بالذات صار يستدعي التفكير في التقنيّة )أو التّقانة)، بدءاً من الأساطير الأولى التي تناولها كبار فلاسفة الإغريق في القرن الرابع قبل عصرنا، لأن ذلك عاد لا يختلف عن الثقافة مع الطبيعة لتحديد موقع الإنسان الذي يستخدمها كأداة قبل أن يُفبركها. فالتّقانة مسألة أساسيّة سواء باختراعاتها أو بالطريقة التي تتشكّل حياتنا فيها، على امتداد تطوّرها من "الفأس الحجريّة" إلى القنبلة الذرّيّة، مرورا باختراع الدولاب (أو العجلة) أو الغسّالة الكهربائيّة وصولا إلى المسيّرات بلا قائد، والسيّارات بلا سائق... والروبوتات التي تحلّ محلّ الإنسان وتُنافسه... تألِين الفرد والجماعة.
على هذا الأساس أكد الفيلسوف الفرنسي رينه ديكارت في القرن السادس عشر "حقّ الإنسان في الهيمنة على الطبيعة وتغييرها، واستغلالها، في خدمة الإنسان".
هذا التطلّع الحاسم سبق أن راود المخيّلات، وما تكهّنه أُناس وفنّانون وفلاسفة آخرون.
ففي القرن الثالث عشر، يتصوّر راهب فرانسيسكاني عربات بلا جياد، وسُفُنا بلا مجاديف، ويخطّ الفنّان الكبير دافينتشي (1452 - 1519) مُجسّدات هي عبارة عن آلات رائعة منها ما يشبه طائرات الهليكوبتر، أو المظلّات الجويّة؛ أو اختراعات القرن العشرين: فالتقنيّة كأنّها رافقت هواجس الإنسان منذ قديم الزمن؛ وها هو إيكار يصنع أجنحة من الشّمع ويطير بها، لكنّه يقترب كثيراً من حرارة الشمس... فتذوب أجنحته ويسقط معها.
ولكن منذ القرن التاسع عشر الرومنطيقي بات ظِلُّ فرانكنشتاين ومصيره مقلقَين، (إله النار الجوي) رواية وضعتها الكاتبة الإنكليزيّة ماري شيلي (1797 - 1851)، تروي قصّة فيكتور فرانكنشتاين، وهو عالم شاب يصنع مخلوقا غريبا في تجربة علميّة غير تقليديّة؛ ويفشل فيها المخلوق من إقامة علاقات سويَّة مع محيطه، فيعيش في الاغتراب عنه.
ولهذا ومع تطوّر الصناعة المُمَكْنَنَة بدأ الإنسان يكتشف أنّ المبالغة في استخدام الاختراعات قد ترتدّ سلبا عليه خصوصا عبر تنامي وسائل الاتصال والإنترنت، وصولا اليوم إلى اعتبار أن التكنولوجيا باتت اليوتوبيا الجديدة للعالم. وهذا بالذات قد قَلَبَ الموازين بين اليوتوبيا الاجتماعية (والثورات، والفلسفات، والصناعات والابتكارات) وبين اليوتوبيا التقنيّة؛ بحيث أصبحت هذه الأخيرة الوسيلة والهدف، وتحقيق التحوّل الاجتماعي، أي بروز ظاهره الاستلاب، التي سبق أن طرحها الفيلسوف هيغل ووَرثها ماركس وحمّلها أفكاره باعتبارها "اغتراب الإنسان عن ماهيّته الإنسانيّة بسبب انفصاله عمّا ينتجه بقوّة عمله، ليصير تابعا للآلات التي يخترعها. فالاغتراب مفهوم طوّره ماركس للدلالة على الانفصام التي يعيشه الإنسان المعاصر تجاه عالم الآلة.
أهم ما في إشكاليّة الإنترنت أنه يجعل من الأفراد ذرّات معزولة تساهم في تفكيك العلاقات الاجتماعية، ولا أدلّ على ذلك من أنّ آلات الاستعمال الحديثة حوّلت من كل منزل منزلا بلا نوافذ، ليصبح الثمن الباهظ للحرّية هو العزلة القاتلة
أمّا الفيلسوف جورج لوكاتش فقد وضع مفهوما آخر للدلالة على الاغتراب وهو مفهوم التشيّؤ الذي يدلّ على الوضعيّة. التي يجد الإنسان نفسه فيها، وقد فَقَدَت السّلع والأشياء التي يُنتجها قيمتها الاستعماليّة لتكتسي قيمة "تبادليّة وتجاريّة محضة". وفي سياق آخر يدرج المفكر دومينيك دولتن مفهوم العزلة التفاعليّة، وأوّل علامة عن قوّة نظام شبكة الإنترنت "أن يجد الإنسان نفسه لا حولَ له ولا قوّة أمام جبروت الآلة، ليجد نفسه منساقا إليها وتابعا لها، وكلّما ازداد انخراطه فيها تعاظمت روابطه الإلكترونية والافتراضيّة، وتراجعت علاقاته الإنسانيّة وخبت جذوتها العاطفيّة".
أمّا مفهوم العزلة في الإنترنت أو ما اصطلح تسميته العُزلة التفاعليّة فيرى "المفكّر أن الإنترنت يُكرّس عزلة روّاده ومُستعمليه، ويؤكد العزلة التفاعليّة، التي تعبّر عن أمرين متناقضين: فهي من جهة تفاعل، ومن جهة أخرى أنّ هذا التفاعل لا يفيد في إخراج روّاده من العُزلة.
فالإنترنت ولوج في العُزلة التفاعليّة ليصبح فيها الأفراد في مجتمعات الاتصال "متحرّرين من كثير من أشكال الإكراه لكنّهم في المقابل، باتوا محاصرين في زواياها المنفردة، فاقدين حسّ الاتصال بالآخرين، تعترضهم عوائق في عقد علاقات اجتماعيّة طبيعيّة".
من هنا يمكن اعتبار الهَوَس شبه المَرَضي بالاتصال في المجتمعات الحديثة مجرّد تعويض عن العزلة الكبيرة التي يعيشونها، فكلّما ازدادت العزلة ازدادت الحاجة إلى الارتباط بالخطّ الهاتفي والشبكة العنكبوتيّة، تماما كَمُدمني التدخين والمخدرات. فالاتصال لم يعُد يروي ظمأ التواصل، لتصبح العزلة صانعة مجتمعات الاتصال المعاصرة.
من هنا نقول إنّ أهم ما في إشكاليّة الإنترنت أنه يجعل من الأفراد ذرّات معزولة تساهم في تفكيك العلاقات الاجتماعية، ولا أدلّ على ذلك من أنّ آلات الاستعمال الحديثة حوّلت من كل منزل منزلا بلا نوافذ؛ ليصبح الثمن الباهظ للحرّية هو العزلة القاتلة.
أمّا الفيلسوف جاك إيلول فيدافع عن أطروحة استقلال الإنسان عن الآلة، والتخلّص من لغة "تقديسها"، ما يعني أن نضحّي بكلّ ما فيها من غرابة... وهذا يعني أنه لم يعد لمجتمعنا هدف، لأنّ الوسائل التقنيّة حلّت محلّ "الأهداف" والإنسان وبدلا من أن يستخدم التقنيّة فهي التي تستخدمه ليصبح "خادما لها". كأنّه يختار عبوديّته الطوعيّة. وهذا بالذات قد قَلَبَ الموازين بين اليوتيوبيا الاجتماعية، (القدرات، والفلسفات، والإبداعات، والصناعات، والابتكارات) وبين اليوتوبيا التقنيّة.
بل نكاد نقول عبثا، التفكير في يوتوبيا اجتماعية، باعتبار أن اليوتوبيا التكنولوجيّة أصبحت الوسيلة والهدف للتفكّر وتحقيق التحوّل الاجتماعي، بما فيها الثورات في عصرنا، التي يمكن وصفها باليوتوبيا الأيديولوجيّة، من خلال اليوتيوبيا الاجتماعيّة التي أنزلت من محمولها التاريخي. فالتحدّي الكبير يقوم على إعادة ابتكار اليوتيوبيا الاجتماعيّة الثقافيّة والسياسيّة ضدّ اليوتوبيا الأيديولوجيّة المعاصرة. بمعنى آخر باتت التّقانة الهدف والوسيلة لتحقيق التغيير الاجتماعي، وكذلك تحوّلات عصرنا.
لكن على الرغم من ذلك فالإنترنت، يعاني أصلا، في جوهره مفارقات عديدة: فهو يُلبّي حاجة الفرد إلى الخصوصيّة ويُكرّس حقه فيها، تساعده على إحداث مواقعه الإلكترونيّة وعلى عرض أعماله وأنشطته وعلى تكوين إرادته. بل إن أهمّ ما أدّى إليه الإنترنت إتاحته لمُستعمله توسيع شبكاته الاجتماعيّة وتمديد دائرة معارفه بما يضمن انخراطه في أحداث الساعة. صار الإنترنت الأداة الإلكترونيّة التي لا غنى عنها لتحقيق الفرد حرّيته ومن دون رقابة. لكن في المقابل، لا يملك هذا الفرد فكاكا عنها يُكبّله بقيود تتمثل في إفشاء حياته الخاصة.
ولكن مقابل فكرة الاستلاب والعُزلة التفاعليّة، ثمّة أفكار مؤيّدة لنظريات الاتصال الحديثة، ولا ترى في الإنترنت مجرّد آلة سالبة لحرّية الإنسان، وإنّما ترى فيها مناسبة للتواصل الاجتماعي وفرصة في عقد عرى ونسج علاقات سواء على شكل صداقات أو اهتمامات أو هواجس اجتماعيّة أو بيئيّة أو سياسيّة، أو قواسم مشتركة مهنيّة أو استهلاكيّة.. أمّا الإمكانات التي أتاحها الإنترنت بفضل الثورة الرقميّة، فمنها التحرّك في فضاء افتراضيّ بدون الحركة الفيزيائيّة وهذا ما يُسمى "الارتحال الافتراضي"، الذي يناقض العقلي، بمعنى أنّ العقل يتحقق بينما الافتراضي هو ما لا يتحقّق بعد. نجد أنفسنا في العالم الافتراضي في حركة خارج الزمان والمكان، ويعود الفضل إلى الإنترنت في دفع الزمان والمكان إلى حدودهما القصوى.
صحيح أنّ التّقنيّة، بأشكالها ووظائفها المفتوحة، تُعزّز في بعض معطياتها حرّية الإنسان، بتحرّكه، وهواجسه، وحاجاته، ولكن يرى كثير من الفلاسفة ومنهم جاك إيلول أنّ "لا مكان للنظرات المتفائلة بمستقبل الإنسان - الآلة، ولا للنظرات المتشائمة... فالتقنيّة نظام قبل أن تكون مجموع آلات وأدوات... فلا توجد أيّ إمكانيّة خارج العالم التقنيّ وخارج نظام التقنيّة المعاصر، بل لا عالم خارج العالم التقني، إنّه الشرط الوجودي للإنسان المعاصر: " ويعني ذلك أن لا وجود للحرّية في العالم التّقني... فلا بدَّ لِي أن أستهلكه في كل الأحوال.. ولا يمكن الحديث عن الحرّية في المجتمعات التقنيّة المعاصرة بقدر ما يمكن الحديث عن الاستلاب".
الإنترنت وفّر حدودا لا نهائيّة من التواصل. لكن لا يمكن أن نعتبر أنّه "يخلق" أفكار "الديمقراطيّة" ومساحاتها، فالمسألة متشعّبة، ومتداخلة، فلا آلات تصنع الإنترنت بتقانة ولا الإنترنت يصنع الحرّية
المفكّر دومينيك دولتن
لكن، ما يزيد الأمور تعقيدا وقلقا، أن الانترنت يحمل في طيّاته عناصر من أيديولوجيا العولمة، "وهي عبارة عن الكليشيات واسعة الانتشار منذ "القرية الكونيّة" (بحسب الدكتور عبد العالي معزوز في كرّاسه "الإنترنت والاستلاب الثقافي"؛ وهي تعني "تحويل العالم إلى سوق كونيّة. أي إننا نعيش في مجتمعات التسويق الشامل، وليس في مجتمعات الاتصال الشامل".
والإنترنت أداة فعّالة في هذا الاتصال. ويرى المفكّر الفرنسي ريجيس دوبري "أننا نحيا في عصر العولمة الاعلاميّة أو في عصر الاتصال المعولم".
والمسألة الأخرى: ثمّة علاقة إيجابيّة بين الإنترنت والديمقراطيّة؛ يقول المفكّر دومينيك دولتن بحجّة أنّ الإنترنت وفّر حدودا لا نهائيّة من التواصل. لكن لا يمكن أن نعتبر أنّه "يخلق" أفكار "الديمقراطيّة" ومساحاتها... فالمسألة متشعّبة، ومتداخلة... فلا آلات تصنع الإنترنت بتقانة ولا الإنترنت يصنع الحرّية. فبالرغم من قوّة الآلة... تبقى هذه الأداة محكومه بمَنْ وكيف نستعملها. إنّها حياديّة كشيء، ولكن ما يجعلها خطراً، أن تقع في أيدي الأقوياء، والمرجعيات السائدة... التي تُستخدم للقمع أو للمنع... أو للتضليل...
فكلّ شيء في هذا العالم مزدوج الدَّور، ولذلك، فالمهمّ ليس الإنترنت بحدِّ ذاته، بل، بمَنْ يستخدمه.
وهنا الطّامَّة الكُبرى.