طاقة إنتاجية
لعل اللافت في "كيرة والجن" هو الطاقة الإنتاجية المستخدمة في تصوير الحقبة الزمنية بواقعية، والقدرة على استيعاب جمالية هذه الحقبة المتمثلة في المباني والأزياء والفنون. وتعدّ الأجواء العامة لعشرينات القرن الماضي إحدى أقوى نقاط الفيلم، فلا تشعر بأن الفيلم يفقد السيطرة على نبرة الواقعية التي استطاع اكتسابها من أولى المشاهد، مع محاولات جريئة لتصوير الشخصيات في فضاءات واسعة وأماكن مفتوحة تظهر الحياة بأوجها في تلك الفترة من القرن العشرين. كما جاء اختيار الممثلين الإنكليز موفقا، بما لا يقلّل من مستوى الأداء العام في الفيلم.
من جهة أخرى، تمثّلت القدرات الإنتاجية في مشاهد الاكشن والقتال، فجاءت الكوريغرافيا في مستوى أعلى مما اعتدنا مشاهدته في الكثير من الأفلام العربية. وقد استطاع المخرج توظيف هذه الكوريغرافيا بذكاء مع لقطات تتبّع طويلة نسبيا في محاولة لإضفاء طابع ملحمي على المعارك التي يخوضها أبطال الفيلم. ومن المعروف أن لقطات التتبّع تتطلّب توظيف عناصر عدّة وتكاتف أفراد طاقم العمل بشكل استثنائي لأن خطأ واحدا كفيل بإعادة المشهد منذ البداية، لذلك من المنعش جدا مشاهدة عمل عربي يُقدم على مثل هذه الخطوة الجريئة والصعبة.
ضياع الهوية
لكنْ، وبالنظر لحجم القصة وكمية الخطوط السردية التي يحاول تغطيتها، سرعان ما تظهر مشكلة في السرد وتحديد هويته. فالمعارك الضخمة على سبيل المثال، تبدو خالية من الارتباط السردي بسبب عدم التمهيد المناسب لها، وفي بعض الأحيان يسبق المعركة أو المشهد القتالي بين أبطال الفيلم والمحتل الإنكليزي، مشهد واحد تُذكر فيه خطة الهجوم، وفي أحيان أخرى يُتجاهل ذلك تماما ونتفاجأ كمشاهدين برمينا مباشرة في قلب معركة لا نعلم ما يحصل فيها، ولولا اختلاف الأزياء وألوان البشرة لما عرفنا من يقاتل من. المشكلة أن ذلك يقلّل من حماسة المشاهدين مع أبطال الفيلم ويصغّر من فداحة الجرائم الإنكليزية المرتكبة في حق الشعب المصري.
ربما كان من الأجدى تقليل خطوط السرد والتركيز على حدث واحد ضخم يُمهّد له بتأن مع مراعاة العلاقات التي تربط بين الشخصيات وكيف تؤثّر هذه العلاقات على تطوّر مسار القصة وأحداثها. لأن أكثر من تأثر بسبب ضخامة هذا الفيلم هو شخصياته. على سبيل المثال، روبي في دور "زينب" زوجة الطبيب أحمد كيرة، وبالرغم من الإعلان المبدئي بأنها ضيفة على الفيلم وليست مؤدّية أساسية فيه، لم تحصل على مساحة واسعة على الشاشة ولا كان لها تأثير على مسار الأحداث، لذلك يأتي حادث موتها جافا عاديا دون أيّ صدمة أو ارتباطات عاطفية. وحينما يأتي "جن" لإقناع كيرة بالعودة إلى الثورة والمقاومة، يظهر المشهد باهتا لأن "جن" لا تربطه علاقة صداقة متينة مع كيرة، ومن غير المنطقي حتى تلك اللحظة، وبناء على ما ظهر منه في الفيلم، أن يكون هو من يقنع كيرة بالعودة إلى الثورة.
ولعلّ ترامي أطراف القصة على هذا النحو، هو ما جعل صناع الفيلم يسعون إلى تسريع الأحداث أحيانا بإضافة صوت راوٍ يختصر قفزات زمنية أو يقدّم بعض الشخصيات الجديدة، وهو أكثر ما حصلت عليه أغلب شخصيات الفيلم، مجرد تقديم بصوت الراوي دون أي بناء درامي حقيقي. وتنبع سلبية صوت الراوي من كونها مرتبطة في ذهن المشاهد ارتباطا كبيرا بأفلام عمليات السطو التي تجمع بين الأكشن والكوميديا، فيخسر الفيلم نبرة الجدية في سرده حينما يتبنّى مثل هذه الأساليب، خصوصا حينما يكون استخدام هذا الأسلوب بشكل عشوائي وغير ممنهج.
وبنظرة أشمل على الفيلم، نجد أن أزمة الهوية لا تتوقف عند صوت الراوي المستخدم، ولكنها تمتد إلى الفيلم ككل. في بداية الفيلم الهادئة مع سرد الأحداث التاريخية نعتقد أننا أمام فيلم ملحمي سوف يسرد قصته بصورة جدية وواقعية تبتعد عن كليشيهات الاكشن وأفلام السطو، نبرة تعكس ضراوة الاستعمار ولا تخفف من قسوة المشاعر التي تفرضها على المشاهد. ولكن بعد فترة يتخلى الفيلم عن هذه النبرة ويبدأ باكتساب نبرة أفلام السطو والجريمة التي يطغى عليها انعدام الواقعية والحماية المبالغ فيها للأبطال، يظهر ذلك جليا حينما يستطيع الثوار ذوو العدد المحدود تنفيذ عملية ناجحة تلو الأخرى من دون خسائر حقيقية أمام قوة عسكرية كاسرة. صحيح أن الثوار تدريجيا يخسرون بعض أفرادهم لكن الفيلم لم يبذل جهد حقيقي في تقديم هذه الشخصيات لذلك لا يحمل موتها أي وقع درامي.
يبدأ الفيلم متبنيا أسلوب أفلام كلاسيكية مثل "قلب شجاع" Braveheart و"المجالد" Gladiator ولكنه سرعان ما يتخلى عن هذا الأسلوب ويبدأ بتبني أسلوب أفلام مثل Fast and Furious. كل من الأسلوبين له مميزاته وعيوبه، لكن الدمج والتنقل بينهما لا يؤدّي غالبا إلى النتيجة المرجوّة. عربيا، كان فيلم "الجزيرة" لشريف عرفة أحد أفضل الأمثلة على الأعمال المشبعة بمشاهد الاكشن من دون خسارة صوت الفيلم وما يريد المخرج والكاتب قوله من خلاله. حتى مع نبرة الإثارة التي ارتفعت بشكل كبير في نهاية الفيلم ومشاهد الاكشن المتواصلة، لم تُفقد الرسالة المتمثلة في عرض شخصيات مليئة بالعيوب على طرفي النزاع (المجرمون والشرطة)، وكيف أن العنف يلتهم الطرفين في النهاية، أيا تكن الدوافع والقيم الأخلاقية.