لم يأت بنيامين نتنياهو بشيء جديد، أو مفاجئ، في إعلانه إصرار إسرائيل على "كبح تطلعات الفلسطينيين لدولة مستقلة"، ولا في قوله بأن إسرائيل "بحاجة إلى السلطة الفلسطينية...نحن لا نريدها أن تنهار. نحن على استعداد لمساعدتها من الناحية الاقتصادية. لدينا مصلحة بأن تواصل السلطة عملها...إنها تقوم بالعمل نيابة عنا."
بيد أن السؤال هنا برسم القيادة الفلسطينية، ليس عن رفض إسرائيل قيام دولة فلسطينية، فقط، والذي يكشف الوهم الذي سارت فيه تلك القيادة بعقدها اتفاق أوسلو (1993)، فهذا معروف، وإنما هو بالأخص، عن الجانب الأخر في تصريح نتنياهو المتعلق بحرصه، أو مصلحته، عدم تركها تنهار، وقوله أنها تعمل بالنيابة عنا، وتاليا عما فعلته أو لم تفعله منذ قيامها، طوال ثلاثة عقود، الأمر الذي جعل السلطة حاجة إسرائيلية، بقيامها بأدوار تبدو فيها كوكيلة عن إسرائيل في السيطرة على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، بصورة مباشرة وغير مباشرة.
وفي الواقع فإن تجربة العقود الثلاثة الماضية، وهو عمر السلطة الفلسطينية، أكدت أن فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، هي مجرد فكرة متخيّلة، أو كناية عن وهم، أو مغامرة غير محسوبة، لدى القيادة الفلسطينية، روّج لها للأسف بعض مثقفين فلسطينيين، أيضا، سيما أنها لم تكن متضمنة أصلا في نص اتفاق أوسلو.
كما أكدت تلك التجربة بأن إسرائيل ليس لديها ما تقدمه للفلسطينيين سوى كيان بمرتبة حكم ذاتي محدود، وتحت هيمنتها، من النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية والإدارية، وعلى قاعدة الاستثمار في السلطة الفلسطينية لإحكام السيطرة على فلسطينيي الأراضي المحتلة، وفقا لاتفاقات التنسيق الأمني، الملحقة باتفاق أوسلو، والتي تشكل جوهره أو عموده الفقري، مع علمنا أن إسرائيل دفنت ذلك الاتفاق، أو تملصت من كل الاستحقاقات المطلوبة منها فيه، منذ زمن طويل، في حين تمسكت فقط باتفاقات التنسيق الأمني.
تجربة العقود الثلاثة الماضية، وهو عمر السلطة الفلسطينية، أكدت أن فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، هي مجرد فكرة متخيّلة، أو كناية عن وهم، أو مغامرة غير محسوبة، لدى القيادة الفلسطينية، روّج لها للأسف بعض مثقفين فلسطينيين، أيضا، سيما أنها لم تكن متضمنة أصلا في نص اتفاق أوسلو
ومن جهتها فإن القيادة الفلسطينية، فهمت ذلك، أو اشتغلت على أساسه، سيما في عهد الرئيس محمود عباس، بدليل طيّ قرارات المجلسين الوطني والمركزي الفلسطينيين، وهما أعلى هيئة تشريعية فلسطينية، المتعلقة بوقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، والتي ظلت تصدر منذ العام 2015، بإبقائها حبيسة أدراج القيادة الفلسطينية. أيضا، ما يوضح ذلك أن إسرائيل ظلت تعمل بلا كلل على تعزيز، وتوسيع، الاستيطان في الضفة الغربية، ولاسيما في القدس، مع إقامة الجدار الفاصل والجسور والأنفاق، لحصر الفلسطينيين في معازل متناثرة.
على ذلك فإن مشكلة الفلسطينيين أن قيادتهم ظلت ترفض الاعتراف بإخفاق خيارها المتمثل باتفاق أوسلو، وإنها في السياسات التي انتهجتها كسلطة، أسهمت في تفكيك وحدة الشعب والأرض والقضية الفلسطينية، وفي تهميش منظمة التحرير، باعتبارها الكيان المعنوي الجامع للفلسطينيين، وفوق كل ذلك فهي أضعفت المجتمع المدني الفلسطيني في الداخل، إذ كان، قبل إقامة السلطة، أكثر وحدة وتحررا وجرأة في صراعه ضد إسرائيل، منه بعد إقامتها.
في المحصلة فإن فلسطينيي الأراضي المحتلة باتوا في مواجهة ثلاث سلطات، الأولى وهي سلطة إسرائيل وهي السلطة العليا بين النهر والبحر، من كل النواحي. والثانية هي سلطة المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، والتي تزايدت وباتت تأخذ اشكالا نظامية وقانونية مؤخّرا، سيما في إطار تعزز مكانة اليمين القومي والديني في التحكم بسياسات إسرائيل وسياساتها الاستيطانية. والثالثة وهي السلطة الفلسطينية، التي هي مجرد سلطة على شعبها فقط، وليس لها سيادة على الأرض، ولا على المعابر، ولا تستطيع فعل شيء، لا برغبتها ولا بإمكانياتها، لحماية شعبها من اعتداءات الجيش الإسرائيلي وقطعان المستوطنين، كما حصل مرارا في القدس ونابلس وجنين ورام الله وحوارة وترمسعيا، الأمر الذي وكشف عجز السلطة، ووسع من الفجوة بينها وبين شعبها.
في المحصلة فإن فلسطينيي الأراضي المحتلة باتوا في مواجهة ثلاث سلطات، الأولى وهي سلطة إسرائيل وهي السلطة العليا بين النهر والبحر، من كل النواحي. والثانية هي سلطة المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، والتي تزايدت وباتت تأخذ اشكالا نظامية وقانونية مؤخّرا، سيما في إطار تعزز مكانة اليمين القومي والديني في التحكم بسياسات إسرائيل وسياساتها الاستيطانية. والثالثة وهي السلطة الفلسطينية، التي هي مجرد سلطة على شعبها فقط، وليس لها سيادة على الأرض
ومشكلة الفلسطينيين، أيضا، أن مرور ثلاثة عقود، ضمنها عقدين تقريبا في ظل قيادة الرئيس محمود عباس، وهو رئيس المنظمة والسلطة وحركة "فتح"، ورغم انكشاف موقف إسرائيل، وسدها الفرص أمام خيار الدولة الفلسطينية المستقلة، فإن قيادتهم لم تفعل ما يفترض أن تفعله لتعزيز قوة وفاعلية المجتمع المدني الفلسطيني، وتأمين مقومات صموده، أو لتطوير الكيانات والمؤسسات الوطنية الفلسطينية الجامعة، وإضفاء الحيوية عليها، على أسس وطنية ومؤسسة وديمقراطية. أيضا، فإن تلك القيادة لم تفعل شيئا لمراجعة أسباب اخفاق خياراتها السياسية، والتحول نحو طرح خيارات بديلة أو موازية، بدل التشبّث بخيار واحد هو خيار إقامة دولة مستقلة، علما أنها لا تمتلك إمكانيات هذا الخيار أو غيره، لا أقل منه، ولا أكثر منه، إذ إن خيار الدولة المستقلة وفق اتفاق أوسلو، الذي جرى اعتماده، اسهم في الاضرار برؤية الشعب الفلسطيني لذاته، ولوحدته كشعب، وشوش على طبيعة قضيته، وعلى شكل نضاله من أجل حقوقه.
قبل عامين بدا أن ثمة ضوء في نهاية النفق مع إقرار إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، مع احتمال تنظيم انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني، ومع إن هذه الانتخابات لن تحل أزمة الأزمة الوطنية الفلسطينية، كونها أزمة بني وخيارات وخطابات مستهلكة، إلا إنها كان يمكن ان تمهد لخلق واقع يمكن الفلسطينيين من تجديد حركتهم الوطنية، إلا أن هذا الضوء جرى كسره مع الغاء الرئيس الفلسطيني عملية الانتخابات، بجرة قلم.
بؤس الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، واخفاقها، أكثر ما يتجلى اليوم في رئيس عمره 88 عاما، ومازال يتشبث بمناصبه، كرئيس للمنظمة والسلطة و"فتح"، وبكيانات سياسية في غيبوبة، تشبه رئيسها، وتكاد لا تعمل شيئا، أو لا تضيف شيئا.
في مقابل ذلك ثمة شعب فلسطيني يواصل كفاحه، في ظروف صعبة ومعقدة وغير مواتية، إن بالتشبث بأرضه وبحقوقه، أو بأفراد مستقلين، من نشطاء مبادرين، في كل الحقول، يحاولون كسر هذا الواقع، وإفهام إسرائيل أن ثمة ثمن للاحتلال، ورغم إنها مبادرات بأفق محدود، وفي معطيات غير مواتية، إلا إنها محاولة جريئة لملء الفراغ، أو كسر التكلس، السياسي المريع السائد في الساحة الفلسطينية منذ سنوات.