كيف يمكن إعادة التوازن إلى سوق النفط ووضع حد لتقلبات الأسعار؟ سؤال أقرت بموجبه مجموعة "أوبك بلس" أخيراً الاستمرار في تطبيق قرار خفض الانتاج المتخذ في وقت سابق، حتى نهاية عام 2024.
هناك مشكلات أساسية تواجه الاقتصاد العالمي تضيف الضغوط على أسعار النفط وتحد من ارتفاعها أو على الأقل تثبيت استقرارها لزمن معقول. واجه اقتصاد الولايات المتحدة موجة من التضخم خلال العام المنصرم، وإلى حد ما في الربع الأول من السنة الجارية، دفعت إلى رفع أسعار الفوائد المصرفية التي ساهمت قليلا في تراجع معدلات التضخم. إلا أن هذه السياسات النقدية عززت المخاوف من تراجع معدلات النمو الاقتصادي لدى العديد من المؤسسات الاقتصادية والمراقبين والاقتصاديين الكبار. بيد أن بيانات التوظيف الصادرة أخيراً تؤكد أن الزخم في أعداد العاملين الجدد يعني أن الاقتصاد يتمتع بإمكانات جيدة للنمو في قطاعات حيوية عدة.
الثقل الأميركي
أدى استخراج النفط الصخري والغاز الصخري، كما هو معلوم، إلى تراجع اعتماد الولايات المتحدة على النفط المستورد من الدول المنتجة. أفاد تقرير لمعهد البترول الأميركي (API) في شهر مايو/أيار الماضي، بأن قطاع النفط والغاز يساهم بما يربو على 2 تريليون دولار سنويا في الاقتصاد الأميركي، ويمكن من توفير وظائف في مختلف القطاعات قد تصل إلى 11 مليون وظيفة.
إذا كانت تقديرات النمو للاقتصاد الأميركي في حدود 1,3 في المئة خلال السنة الجارية، و1 في المئة لعام 2024، فإن احتمال ارتفاع أسعار النفط بشكل مؤثر قد لا يبدو واقعيا
يرى المتخصصون في اقتصادات النفط والطاقة أن قرار "أوبك بلس" قد يؤدي إلى تقليص مخزون النفط بشكل محدود. يراهن هؤلاء على أن سعر نفط البرنت سيراوح عند 79 دولارا للبرميل خلال النصف الثاني من السنة الجارية، وربما يرتفع إلى 84 دولارا السنة المقبلة. وإذا كانت تقديرات النمو للاقتصاد الأميركي في حدود 1,3 في المئة خلال السنة الجارية، و1 في المئة لعام 2024، فإن احتمال ارتفاع أسعار النفط بشكل مؤثر قد لا يبدو واقعيا. يحد من ارتفاع الطلب على النفط في الولايات المتحدة، تزايد استخدام الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء. الولايات المتحدة الأميركية تعد من أهم البلدان المستوردة للنفط، وعلى الرغم من انخفاض الكمية المستوردة منه، إلا أنها لا تزال مهمة وتقدر بـ6,1 ملايين برميل يومياً، في حين أن الاستهلاك الإجمالي كان في حدود 18,7 مليون برميل يوميا في عام 2021.
عودة الصين وانتعاش الأسواق
أصبحت اقتصادات النفط تعتمد على الدول الآسيوية التي تمتعت خلال السنوات المنصرمة بنمو اقتصادي ملحوظ، ومن أهم هذه الدول الصين والهند واليابان. تحولت الصين خلال السنوات المنصرمة إلى أكثر الدول تأثيراً على أسواق النفط وأوضاع العرض والطلب. لكن استيراد الصين من النفط الخام انخفض بنسبة 16 في المئة خلال شهر أبريل/نيسان الماضي إلى 10,4 ملايين برميل يومياً، بعدما كان 12,4 مليون يومياً في شهر مارس/آذار.
تستورد الصين النفط من عدد من الدول المنتجة أهمها السعودية وروسيا، ويقدر معدل الاستيراد في حدود 11,8 مليون برميل يومياً، تمثل تحسناً عن السنتين المنصرمتين، حيث عانت البلاد من إجراءات الإغلاق والتشدد نتيجة المخاوف من وباء كوفيد-19، وهي لم تعد إلى الانفتاح إلا قبل أشهر قليلة. لا شك في أن انتعاش الاقتصاد الصيني ذو أهمية كبيرة لسوق النفط ويعزز الطلب ويرفع الأسعار.
السؤال الكبير كيف ستتعامل دول "أوبك"، وتحديداً الدول العربية المنتجة للنفط، مع تقلبات السوق في المستقبل القريب وعلى المدى البعيد، في ضوء العوامل والمتغيرات، ومنها المناخ والحروب والكوارث الطبيعية
تبقى أسواق النفط رهينة العديد من العوامل والمتغيرات، منها المناخ والحروب والكوارث الطبيعية، وهناك عامل مهم هو التطور في اقتصاديات الطاقة والاهتمام ببدائل الطاقة النظيفة والتحولات في صنـاعة المركبات والسيارات ووقود توليد الكهرباء، للحد من التغير المناخي ومن درجات التلوث بثاني أكسيد الكربون. شكلت حرب روسيا في أوكرانيا منذ فبراير/شباط 2022 أحد العوامل المؤثرة في أسواق النفط، ودفعت لفترة من الزمن إلى ارتفاع الأسعار بعد تأكيد الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية مقاطعة صادرات النفط الروسية، وكذلك صادرات الغاز الطبيعي.
السؤال الكبير كيف ستتعامل دول "أوبك"، وتحديداً الدول العربية المنتجة للنفط، مع هذه التقلبات في المستقبل القريب وعلى المدى البعيد؟ واجهت دول "أوبك" أزمات في الماضي، من أهمها تراجع أسعار النفط بشكل قياسي في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، مما دفع إلى خفض الإنتاج من نحو 30 مليون برميل يومياً إلى 16 مليون برميل يومياً بعدما انخفض السعر إلى دون العشرة دولارات للبرميل. كذلك الأمر في أواخر التسعينات من القرن الماضي على أثر الأزمة المالية في بلدان شرق آسيا.
ربما يبقى الاعتماد على النفط في توليد الطاقة في مختلف الاستخدامات في حدود 33 في المئة في الوقت الراهن، لكن إلى متى يحافظ على هذه النسبة في السنوات والعقود المقبلة؟
دعوة إلى التكيف
يتمثل التحدي أمام دول الخليج وغيرها من الدول المنتجة للنفط والغاز الطبيعي، في القدرة على التكيف مع متغيرات اقتصادات الطاقة، وفي الوقت نفسه، كيفية تطوير اقتصاداتها لتكون أكثر تنوعاً وخفض مساهمة قطاع النفط والغاز في الناتج المحلي الإجمالي.
ربما تتفاوت القدرات بين الدول المنتجة، حيث تمكنت السعودية والإمارات من تعزيز القطاعات غير النفطية، في ظل جهود خفض الاستهلاك المحلي من النفط وتطوير مشاريع الطاقة البديلة، ويتعين على الدول المنتجة الأخرى أن تبذل جهودا مماثلة بهدف تنويع القاعدة الاقتصادية والتفاعل مع متطلبات العالم الجديدة والعمل على مشاريع تحرير النفط من ثاني أكسيد الكربون لتصدير أنواع من النفط النظيف، وكذلك الارتقاء بالتنمية البشرية من أجل تعزيز الانتقال إلى اقتصادات المعرفة.