مضت 41 سنة على ذلك الصيف، صيف حصار الجيش الإسرائيلي بيروت واحتلاله أول عاصمة عربية. كان ذلك سنة 1982، لكن صيفها ظل كأنه البارحة. حتى ما جرى في حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973 "المجيدة"، أو رمضان، انطفأ في ذاكرتي. فالمآسي تحفر عميقا في الصدر والذهن، أما أشباه الانتصارات فتتبدد لحظة انقشاع النتائج الصفرية.
في بداية سنة 1982 دخلت بيروت روتينا سياسيا مملا، لكنه مزدهر ماليا. المتنقلون بين شطريها لم يكن يشغل بالهم سوى ما يتكبدونه على حواجز التشبيح المسلح.
كنت على موعد مع عيد زواجي الذي بدأت أحتفل به بعد شفائي من إصابتي في معارك فنادق بيروت في بدايات حروب لبنان الأهلية سنة 1976. وسنوات كانت قد مرت على امتهاني عملا جديدا تعلمته من قراءة سريعة لعلوم الكهرباء المغناطيسية والمحولات وتثبيت التيار المتردد. وسرعان ما أنشأت مشغلا للكهرباء المغناطيسية، وصناعة المحولات ومنظمات الطاقة، وسجلته في غرفة التجارة والصناعة ببيروت.
نجحت سريعا في عملي الجديد، ما وفر لي مردودا شهريا يزيد حينها على 10 آلاف دولار، جعلتني مستقلا في رأيي السياسي وثبتت عدم تبعيتي لأحد. وطابت لي الحياة مدمنا على تدخين "روميو وجولييت" صبحا وظهرا ومساء وإلى آخر الليل. أما سجائر "الروثمن" فللضيافة. وكانت مطربتي المفضلة صوتا وصورة الشحرورة صباح، خصوصا وهي تغني: "ضحكتلك وردات الدار وقالتلك أهلا وسهلا".
بيارتة الثمانينيات
كانت قد مرت قرابة خمس سنوات على تركي العمل في السفارة الليبية. وعلاقتي بالحركة الوطنية اللبنانية تقتصر على حضور اجتماعات مجلسها السياسي المركزي الذي كان يترأسه محسن إبراهيم. وكمندوب لتنظيم بيروتي ناصري في حي العرب، كنت أحضر مجلس مدينة بيروت الذي جعل منه ياسر عرفات واجهة لبنانية سماها الحركة اللبنانية المساندة للثورة الفلسطينية. والتنظيمات الناصرية البيروتية كانت تنظيمات أحياء. أعضاؤها يتامى الناصرية، فاحتضنهم عرفات وترك أيديهم طليقة: يد تمتد إليه بصفته أمين القومية العربية وثورتها الفلسطينية، ولتحصل منه على قطع سلاح وبعض المصاريف، ويد تمتد إلى البعث العراقي لتقبض المال.
وظهرت تبايتات داخل الحركة الوطنية اللبنانية اليسارية، موضوعها الإدارة المحلية لبيروت. وقف بيارتة الحركة قائلين: منظمة العمل الشيوعي والحزبان الشيوعي والتقدمي يتمتعون بالفوائد المالية ويسمعوننا أغنية مارسيل خليفة "ياعلي نحن أهل الجنوب حفاة المدن".
وكان أولئك البيارتة يؤيدون عراق صدام حسين ضد إيران، سواء كانت شاهنشاهية أم تلبست عمامة. وشماتة البيارتة كانت كبيرة بطأطأة النظام السوري رأسه، بعدما طردت قوات بشير الجميل اللبنانية جيشه من مناطق بيروت الشرقية المسيحية سنة 1978. وحتى في معارك حصار زحلة سنة 1981 كان هوانا البيروتي مع القوات اللبنانية لا مع النظام السوري. كنا متعاطفين مع مدينة زحلة التي حاصرها جيش النظام السوري، لا لكتائبيتها بل لمواجهتها نظام حافظ الأسد.
معارك فنادق بيروت وقصص الخطف والموت إعداما جماعيا في السبت الأسود، 6 سبتمر/أيلول 1975، كانت قد صارت خلفنا سنة 1982. وبقيت للبيارتة ثوابت ثلاثة: فلسطين ولبنانيتهم وعراق صدام حسين.