وفي مراجعة للسلوك الألماني تجاه روسيا تظهر التجربة التاريخية اعتماد تكييف القوة الناعمة بدلا من التهديد باستخدام القوة الصلبة. كان "التغيير من خلال التجارة" امتدادا لسياسة الحرب الباردة في ألمانيا الغربية، وهي سياسة التقارب مع روسيا التي وضعتها الحكومة الاشتراكية الديمقراطية في نهاية الستينيات، وسط مخاوف من اندلاع حرب نووية. وعلى الرغم من احتفاظ ألمانيا الغربية بعد ذلك بجيش قوي لردع الغزو السوفياتي، فإن قادة ألمانيا الغربية كانوا يعتقدون أن اعتماد التبادل الاقتصادي كان حاسما في منع نهاية العالم، وعلى هذا الأساس تم بناء خطوط الأنابيب لنقل الغاز الطبيعي السوفياتي إلى ألمانيا.
وعلى مر السنين، وبالرغم من القلق الذي أبداه الرؤساء الأميركيون حيال اعتماد ألمانيا بشكل كبير على السوفيات وتوفير الإيرادات لجيشهم، استمرت ألمانيا في النظر إلى هذه السياسة على أنها أداة فعالة لإنهاء الحرب الباردة.
ماذا تغير؟
عندما غزت روسيا أوكرانيا في فبراير/شباط 2022 كان الجيش الألماني يتألف من قوة قديمة قوامها حوالي 183 ألف جندي لا يفتقرون إلى الأسلحة والذخيرة الثقيلة فحسب، بل إلى أساسيات كثيرة. وفي يوم الغزو كتب اللفتنانت جنرال ألفونس ميس، قائد الجيش الألماني، على شبكة (Linkedin)، معبرا عن إحباطه: "الجيش الذي أتشرف بقيادته مكشوف إلى حد كبير. هذا لا يُشعر بالرضا!".
وفي أبريل/نيسان اعترف الرئيس فرانك فالتر شتاينماير، وهو ديمقراطي اشتراكي شغل منصب وزير الخارجية في عهد أنغيلا ميركل وكان مهندس سياسة ألمانيا تجاه روسيا، بارتكاب أخطاء، وقال للصحافيين في برلين: "لقد تمسكنا بالجسور التي لم تعد روسيا تؤمن بها والتي حذرنا شركاؤنا منها، لقد فشلنا في بناء منزل أوروبي مشترك يضم روسيا".
كانت ألمانيا من أكثر الدول التي تأثرت بشكل أساسي بالغزو الروسي حيث قوضت أسعار الطاقة الباهظة الصناعات الألمانية. لقد فقدت مقولة "التجارة من أجل التغيير" مصداقيتها مما دعا ليس فقط إلى وضع مسألة السياسة الخارجية لألمانيا تجاه روسيا قيد البحث بل أيضا علاقة ألمانيا الحالية مع الصين، الشريك التجاري الأكبر لألمانيا. ففي الوقت الذي يعمل فيه الرئيس شي جينبينغ على تعزيز سلطته، وتقوم الصين ببناء قواتها المسلحة وتهدد بعمل عسكري ضد تايوان، يسعى قادة ألمانيا للبحث عن مصادر طاقة جديدة ويقدمون المسوغات لاستخدام القوة الصلبة.
لقد أفضى البيان الختامي للقمة الأوروبية التي أنهت اجتماعاتها في بروكسل بتاريخ 30 يونيو/حزيران 2023 إلى التأكيد على المخاطر المرتفعة على الأمن الأوروبي لا سيما بعد تموضع مجموعة "فاغنر" في بيلاروسيا واحتمالات تسلل مقاتليها إلى البلدان الأوروبية المجاورة ودورها في تحريك تدفقات الهجرة من أفريقيا باتجاه دول الاتحاد الأوروبي لا سيما دول البلطيق، وهذا ما سيلقي تبعات إضافية على ألمانيا حيال ما تعهدت به لتعزيز الأمن والدفاع في دول الجناح الشرقي للناتو.
لطالما اعتاد الأكاديميون النظر إلى ألمانيا على أنها "دولة مهيمنة ومترددة". لقد أدى التهديد الروسي في خمسينيات القرن الماضي إلى عودة الجيش الألماني خلال الحرب الباردة، اليوم ولمرة جديدة يؤدي التهديد الروسي إلى تنشيط تلك العودة والى بروز دلائل على قبول متزايد داخل ألمانيا للحاجة إلى استخدام القوة العسكرية، وهو ما يشكل تحولا في مسار البلاد التاريخي. فهل يؤدي التزام ألمانيا بحماية دول البلطيق وتعزيز الدفاع عن الجناح الشرقي للناتو إلى الانتصار على "عقدة تجنب القيادة" التي لازمتها بعد الحرب العالمية الثانية؟ وهل يقدم الوضع الدولي المضطرب فرصة لألمانيا للعودة إلى المسرح الدولي كقوة كبرى؟
صحيح أن التردد الألماني في العودة له علاقة كبيرة بالتجربة النازية، لكن من السذاجة الاعتقاد بأن هذا هو ما يفسر كل شيء تماما.