اهتزت صورة فرنسا مجددا في العالم بعد حرائق وأعمال شغب عاشتها ضواحي باريس ومرسيليا وليون وغيرها من المقاطعات التي شهدت انتفاضة الجيل الثالث والرابع من المهاجرين، ردا على مقتل الشاب من أصول جزائرية نائل المرزوقي في مقاطعة نانتير على يد رجل شرطة. وقررت مئات شركات السياحة والسفر إلغاء آلاف الحجوزات الفندقية، ونصحت العديد من الدول الأوروبية رعاياها تجنب السفر إلى فرنسا، في أسوأ موسم سياحي منذ سنوات، قد تكون له أضرار بالغة، نظرا الى أهمية السياحة في الاقتصاد الفرنسي المهدد بالانكماش.
واعتبر خبير علم الاجتماع والباحث في المركز الفرنسي للبحث العلمي، جوليان تالبان، أن ردة فعل شبان الضواحي في نانتير، وهي مقاطعة شمال غرب باريس يقطنها نحو 100 ألف نسمة معظمهم من مهاجري شمال إفريقيا، "يعكس حالة احتقان قديمة وشعور بالإقصاء الاقتصادي وسوء معاملة قوات الأمن، وتخلي الحكومات المتعاقبة عن التزاماتها الاجتماعية لتحسين أوضاع سكان الأحياء الشعبية الفقيرة". ولا يخفي أن أبناء المهاجرين يشعرون أن لا شيء تغير في معيشتهم مقارنة بأقرانهم في أحياء أكثر حظا.
وتسجل البطالة معدلات عالية في كثير من الضواحي التي يقيم فيها المهاجرون، وينتشر الانحراف والمخدرات و يسود الفقر والتهميش، خصوصا في ضواحي باريس وشمال مرسيليا التي تحولت إلى أحياء يكتنفها العنف ولا يدخلها رجال الشرطة في غالب الأحيان.
وانقسم الجسم السياسي الفرنسي على نفسه بقوة، بين الداعين الى اعتماد مزيد من التشدد مع المشاغبين، بما فيها إقرار حالة طوارئ يدعو إليها حزب ماري لوبين اليميني المتطرف وزميلها إيريك زمور، المعروف بمواقفه المناهضة للمهاجرين المغاربيين والمسلمين، وعدد من الإعلاميين المحسوبين على التيارات المناهضة للهجرة، خصوصا المسلمة منها. بينما دافع زعيم فرنسا الأبية، المرشح السابق للرئاسة، جان لوك ميلونشون، وهو فرنسي ولد في طنجة المغربية، عن الحقوق الدستورية والاقتصادية للمهاجرين وحقهم في التعبير عن مواقفهم الرافضة لعنف الشرطة المتكرر، وهاجم التعاطي غير المسؤول للحكومة مع مطالب مشروعة وسلمية اجتماعية واقتصادية في أصلها.
وتتخوف الشركات الفرنسية من انكماش الاقتصاد في الربع الثالث من السنة الجارية، الذي يصادف فصل الصيف، وهي الفترة التي تشهد حركة تجارية وسياحية وقدوم ملايين الزوار. وتمتد المخاوف إلى الاستثمارات الأجنبية المباشرة من آسيا والولايات المتحدة ودول الخليج، في وقت يراهن الرئيس إيمانويل ماكرون على إعادة التصنيع لتحفيز التنمية المحلية وفرص عمل للشباب، خصوصا في ضواحي المدن الكبرى حيث يعيش المهاجرون، الذين يمثلون نحو 11 في المئة من مجموع السكان، منهم 36 في المئة حصلوا على الجنسيبة الفرنسية بحسب إحصاء وزارة الداخلية لعام 2022.
تعميق الأزمة داخليا وخارجيا
تعيد أزمة مقتل الشاب المرزوقي إلى الأذهان الدور الفرنسي الاستعماري التاريخي في القارة الأفريقية وما يشهده حاليا من تراجع إلى حد الاندثار. كلما تراجع الدور الفرنسي في أفريقيا والعالم، زادت صعوبات باريس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. الزمن دار دورته وبات البلد الذي كان يحتل المرتبة الخامسة من حيث الدخل الفردي قبل خمسين عاما، يُصنّف في المرتبة 26 في عهد الرئيس ماكرون، بعدما تجاوزته دول صاعدة ونامية، أضحت أكثر حضورا على المسرح العالمي، وتعزز موقعها بعد أزمة كوفيد-19، والحرب الروسية على أوكرانيا وتضخم الأسعار، وشح مصادر الطاقة في أوروبا، فغدت تركة الأمبراطورية التاريخية مهددة من قوى صاعدة، وبات الدب الروسي والتنين الصيني يفترسان ما تبقى من صياح الديك الفرنسي.