ما يحدث هذه الأيام في فرنسا لم يكن من الممكن أن يحدث إلاّ فيها. تتميّز فرنسا في ذلك عن باقي البلدان الأوروبية. لأنها ربما هي وحدها، من بين كل تلك الدول، بلد المتناقضات، أو لنقل إنها أكثر تلك البلدان تناقضا. من الممكن ألا نعتبر ذلك امتيازا، إلا أنّه تميّز بالرغم من ذلك. وربّما لأجل ذلك يتّخذ هذه الحدّة، ويضع الفرنسيين، بجميع أطيافهم ونزعاتهم السياسية، وبمكونات مجتمعهم جميعها، في حالة من التوتّر والقلق، وكل ما يمكن أن يتولد عن العيش في تناقض: لا ينبغي أن نظنّ أن هناك فرنسيين مرتاحون لما يقع، وآخرين مستاؤون منه. الجميع في سلة واحدة، الجميع في حيرة من أمره.
لا ينبغي أن ننسى أنّ فرنسا هي، أولا وقبل كل شيء بلد الثورة، بلد الحرية والمساواة والإخاء. ولكن أن يوجّه فيها ممثل للقانون فوهة مسدسه نحو شاب جزائري لا يتجاوز سنّه الـ17 عاما بدعوى خرق بند من بنود قانون المرور ليرديه قتيلا، أمر يتنافى كل التنافي مع شعارات الجمهورية. وهو، كما صرّح الرئيس ماكرون، أمر لا يجد تفسيرا ولا عذرا. الأدهى من ذلك، أن هذا النوع من الحوادث أصبح يتكرر في فرنسا، مع ما يتمخض عنه من هيجان اجتماعي، فقد تزايد تطرف الشرطة إزاء شباب الضواحي حدة منذ تبني قانون 2017 الذي سمح لرجل الأمن بأن يستعمل مسدسه بحسب "تقديره" وما يرى أنه يعرضه هو أو يعرّض الأمن العام للخطر. ومنذئذ صارت حياة الضواحي قنبلة اجتماعية معرضة للانفجار في أيّ لحظة. وعلى رغم ذلك، فإننا لا نستطيع أن نعزو ما يقع إلى هذه العلاقة المتوترة وحدها. إذ إن هناك أسبابا معقدة متشابكة متغلغلة في بنية المجتمع الفرنسي وتاريخه. وما الحوادث التي تشعل فتيل الهيجانات، مثل ما وقع مؤخرا، أو ما حدث سنة 2005، إلا عوامل "ثانوية". ذلك أن الاحتجاجات التي تعقبها تفجر تناقضات كثيرة لا يكفي إرجاعها إلى عامل بعينه: كأن نقول إنها تعود إلى إهمال الضواحي وفقرها، أو إلى عدم اندماج المهاجرين وكثرة أعدادهم، كما لا يكفي تفسيرها بردّها إلى معتقدات دينية أو عادات ثقافية من ملبس أو مأكل.