لهؤلاء القرّاء تُرفع القبعات

لهؤلاء القرّاء تُرفع القبعات

قد تصحبُ معك كتابا إلى الشاطئ أو في فضاءٍ عامٍّ، لا إسوة بتقليد بعض الأجانب وأغلبهم نسوة، يؤثرن القراءة على الرّمل، تحت طائلِ كرمِ الشّمس وقدحها... هل يقرأن فعلا؟ أم هو مجرّد فانتازم أرستقراطيّ؟ لنقل محض ادّعاء يحتاجه مشهد العري والاستلقاء كيما تكتمل صورة الانفراد المحصّن ضد إزعاج الآخرين، وكأن الكتاب هو ما يحمي القارئة المدعية من تطفّل المصطافين... وبالمقابل، قد تكون متعة القراءة بهكذا شروط صيفية، حقيقيّة عند البعض، وبذا تكون الصائفة المنذورة للشاطئ هي المحرّض على القراءة، أو غواية القراءة تتوقّد أكثر وتغدو شهوانية على الرمل حذو البحر فيما يشبه احتفالية عري مع كتاب. سيغدو الأمر لافتا وغريبا إن كان هؤلاء، قارئات الشاطئ صيفا بالخصوص، لا يقربن الكتاب إلا صائفة، وبالذات في الشاطئ لا غير، وكأنّ القراءة والصيف باتت متلازمة لديهنّ، وبغير الصيف والشاطئ لا يقرأن أبدا على طول الفصول الأخرى.

غير ما مرّة جرّبتُ أن أقرأ على الرمل في أكثر من شاطئ ولم أستمتع بذلك، ما إن أشرع في القراءة حتّى يمتنع عليّ القبض على خيط المتعة، أكثر من ذلك، تحصّلت لديّ قناعة، وهي: إمّا أنني أهين البحر أو أهين الكتاب بذلك الفعل، فالبحر خُلق لأستمتع به، وجها لوجه، ندّا لندّ، مباشرة دونما وسيط، دونما حاجز بالأحرى، وكذا الكتاب خُلق لكي أنفرد به وحده، وأفيه حقّ اهتمامه وكامل العناية، لكن ليس في الشاطئ، وليس في الحديقة العامة، بل وحيدا قيد البيت، في غرفة مأهولة بي لا غير.

كأنّ القراءة ما يحرّر وجودي قيد الجدران، وبخيال القراءة أسافر خارج حدود الحجرة صوب اللامحدود، كأنّ حيّز الغرفة الضّئيل ما يحرّض خيال القراءة على هدم الجدران ورفع السقف أو نفيه صوب اللانهائي

طالما حاولتُ القراءةَ في الأمكنة المفتوحة، المأهولة، ولمْ أتوفّقْ في الاستمتاع بذلك، إذ غالبا ما أفقد الإمساك بإيقاع ما أقرؤه، ولا أستأنف الطريق المُمتنعة لهكذا كُتبٍ في هكذا أمكنة مُشْرعة على الخلق. المشكلة ليست في النصوص ولا في مؤلفيها، المشكلة شخصيّة لها علاقة وثيقة بالفضاء الطّلق، سواء كان شاطئا أو حديقة أو ساحة عامّة وَقِسْ على ذلك المشترك العام من الفضاءات الخارجيّة.

لا تستقيمُ القراءة لديّ إلا في الفضاءات المغلقة، في البيت وعلى نحو خاصٍّ في غرفة وحيدا. كأنّ القراءة ما يحرّر وجودي قيد الجدران، وبخيال القراءة أسافر خارج حدود الحجرة صوب اللامحدود، كأنّ حيّز الغرفة الضّئيل ما يحرّض خيال القراءة على هدم الجدران ورفع السقف أو نفيه صوب اللانهائي.

كذلك شرط العزلة أو الوحدة بالأحرى ما يتحقّق معه فعل القراءة ولا متعة خالصة في الغالب تتحصّل إلا مع الكتاب وحيدا... العزلة أو الوحدة ولا شيء غيرها. فكما تحتاج الكتابة إلى عزلة تحتاجها كذلك القراءة بالضّرورة، أليست القراءة كتابة مضاعفة؟

هذه ليست قاعدة أو قانونا، وإنما محض خلاصة شخصية غير ملزمة للآخرين.

ومع ذلك، لا أنفي عادة القراءة في السفر، وأعني القراءة في القطار مثلا. لكن للتأكيد المتعة ليست كاملة كما يحدث في حالة الغرفة والبيت، ولكنها ممكنة، نعم نسبيّة جدّا، هل لأنّ العربة تشبه الحجرة؟ هل لأنّ أفعوان القطار المتقدم بلا هوادة متوغلا في تضاعيف الجغرافيا، يشبه أفعوان قطار القراءة المتوغّل في تضاعيف جغرافيا الكتاب؟

نكون محظوظين عندما ننتقي ما سنقرؤه في السفر، على متن قطار أو طائرة مثلا، ومهما يكن السّبب، تزجية وقت الرحلة وتلطيف وحشة المسافة واتقاء سويداء الرتابة، أو هي القراءة فعلا ضروريّة وملازمة لعادة السفر، ولكنّنا قد نجد أنفسنا في أسفار طارئة قد فوّتْنا اصطحاب أنيس الرحلة، وكيفما اتفق نبحث عن بديل، وهنا تنتفي فضيلة الانتقاء لصالح عشوائية الأشياء النّادرة، الموجودة على سبيل المصادفة، كأن تُرغم نفسك على قراءة جريدة أو مجلة في طائرة، وتتخيّل الجريدة أو المجلة رواية بالقوة وليس بالفعل، أو تحتكم إلى هاتفك الحاذق محاولا تعويض ذلك بما احتفظت به من نصوص، لكن القراءة لا تستمر طويلا، إذ تتعثّر بسبب الشاشة المؤذية للعين. يحدث هذا في غياب بديل سينمائيّ، وأعني شاشات المقاعد في الطائرة مثلا.

لعل القراءة والسّفر جديران بكتابٍ لوحده وأمّا موجز المسألة أعلاه، فعن تحقُّق متعة القراءة في المكان المغلق (المنفرد) مُقابل تمنُّع القراءة في المكان المفتوح (المأهول)!

هؤلاء القرّاء المتعلّقون بالكتابِ الورقيّ الآيل للانقراضِ، الممتشقون له خارج عتمات الأقبية وحصون العزلة إلى صلب الحياة اليومية، حريّونَ بأن تُرفعُ لهم القبّعاتُ في مشهدٍ تتكالبُ عليه النهايات المأساوية

بالعودة إلى القارئات على الشّاطئ، لا يستغني عنهنّ المشهد لكي يكون سينمائيّا فعلا، لوحة فنّية تشكيلية، قصيدة غنائية أو نثريّة، وأمّا ما يقرأنه فيثير فضول الرائي عن بعد أو عن كثب، قد يخمّنه بين الرواية والشّعر مع أنّ المُحتمل جدّا هو الخفّة من الأشياء، إذ كيف للتركيز أن يكون ملء عنفوانه أمام هدير الأمواج وصخب المصطافين ونعيق النوارس؟ وَبِذَا إن كان أدبا فلا بدّ أن يكون طفيفا جدّا كسجائر الحدّ الأدنى من عبوة النيكوتين.

مهما يكن من أمرٍ في الأمكنة الخارجيّة المأهولة، سواء كانت متعة القراءة خالصة وهذا أستبعدُه، أو نسبية وهذا الأقرب إلى الواقعيّة أو حتّى منعدمة وهذا واردٌ جدّا، فهؤلاء القرّاء الحميمون، الجسورون، المظفّرون ممّن يقرأ فعلا أو يزعم ذلك في الشواطئ، في المطارات، في محطات القطارات، في الحافلات، في الحدائق والساحات العامة، في المقاهي، على ضفاف الأنهار، في الحانات، على الجسور، على متن السفن، في الشوارع، في قاعات الانتظار...إلخ  هؤلاء القرّاء المتعلّقون حسب درجات الولع والنوايا بالكتابِ الورقيّ الآيل للانقراضِ، الممتشقون له خارج عتمات الأقبية وحصون العزلة إلى صلب الحياة اليومية، حريّونَ بأن تُرفعُ لهم القبّعاتُ في مشهدٍ تتكالبُ عليه النهايات المأساوية، كأنّما هم ما تبقّى في مداره السوداويّ من أشجار واقفة أمام زحفِ صحراء الأزرقِ الكاسح.

font change