قرأت أخيرا رسائل الأمير المحارب تيمور لنك أو مذكراته، بعدما تُرجمت إلى لغات عدّة منها العربية، وذلك بعدما زرت ضريحه وأملاكه ومبانيه في سمرقند الصيف الماضي، فاقتنعت بأن قراءة الأعمال المكتوبة، من سِيرة ورسائل، لشخصية معروفة من الماضي، تفسّر لنا اليوم الوقائع التي لم تُكتب، فما كُتِبَ ليس سوى تبرير الفعل التاريخي، لنقرأه نحن اليوم، ثم نردّده منذ تلك القرون الماضية.
فهنا مثلا يتحدث تيمور لنك في مذكراته عن مناماته. بالطبع هي ليست مجرد أحلام كتبها أو كُتبت له، بضمير الأنا، بل أحلام مجدهِ التي فسّرها كل من حوله في البلاط من علماء الفقه، من أجل تحقيق حلم التوسّع مع جيشه، وهو المعروف بغزوه العالم من الصين إلى فارس والهند وسوريا والعراق وتركيا... وقد رأى كل تلك الدول في أحلامه ودوّنها في مذكراته، ولم يكن التفسير بالنسبة إليه سوى الانطلاق نحوها.
اخترتُ من مناماته، حلمه عن بلاد الرافدين حيث "دخل واديا شاهد فيه عددا من الأُسود، اقتربت منه، والواقع أنها طوّقته". فكان تفسير أهل البلاط لهذا الحلم بأنه فاتحٌ لا محالة بلاد الرافدين، فكتب في مذكراته تلك أنه لمّا دخل بلاد الرافدين وجد ملامح سكانها أشبه بملامح تلك الأسود، قدموا إليه هدايا ثمينة، فأخضع مملكة العراق العربية.
يبقى التاريخ إلى يومنا هذا عِلما لكنه ليس حاسما دوما، فالنقاشات حوله غالبا ما تؤدي إلى خيبة أو صراع أو اختلاف، خاصة أثناء تحليل العلاقات بين السببية والنتائج المختلفة
هذا يعني أن دخوله كان شبه سلمي، وأن أهل تلك البلاد رغبوا في وجوده، لكن المؤرخين العرب أنكروا ذلك، إذ وصفوا دخول تيمور لنك إلى بغداد وصفا مغايرا، فقد هاجمها هجوما شديدا، ودمّر أسوارها، وأحرق بيوتها، وقتل عشرات الآلاف من أهلها، حتى لم تستطع المدينة المنكوبة المقاومة فسقطت تحت الهجوم الكاسح، وأنه ألزم من معه أن يأتي كل واحد منهم برأسين من رؤوس أهل بغداد، هذا عدا من قُتل في الحصار ومن ألقى نفسه في دجلة فغرق.
أما الناس حينذاك فانحازوا بلا شكّ في جميع أنحاء العالم إلى إحدى الروايتين، بين صحة دخوله "السلمي"، واجتياحه الوحشي. إلا أن عصورا تأتي، وبصرف النظر عن الروايات، يتفوق فيها المنطق، وتنحو الأدلة نحو المعلومات الموثقة لا الأهواء والآراء. فمن طبيعة الحرية في عصرنا هذا أن يفسر القارئ تلك المعلومات ثم يحدّدها ويقارنها، وبالتالي يستخلص النتيجة، وإن لم يجد المعلومة جديرة بالثقة، يقيّم المصادر نفسها، ثم ينتقدها. وفي حالة تيمور لنك، لا بد من أن تبرير الفتوحات من خلال أحلامه، وتفاسيرها العاطفية الدينية، فقد كان يستهدف إقناع البسطاء من الشعوب حينها، وهو ما جعل الحلم بمثابة الرؤية.
في السياق نفسه، جاء في مذكرات تيمور لنك عن سوريا: "حلم بغزو سوريا، فجاء له الأعيان، واشتكوا له بأنه استبد بهم الظلم واليأس، فأقام الصلاة ثم صعد جبلا وبلغ قمته فغمرته السحب السوداء والبيضاء، فوقع في خضم زوبعة من الغبار، ثم نزل وابل من المطر الغزير"، ففسّرت حاشية البلاط ذلك بأن "الجبل مملكة سوريا، والغيوم السوداء والبيضاء هي الجيوش السورية والمصرية، أما المطر فجيش جلالتكم الذي سيهلكهم جميعا".
على إثر ذلك، هاجم سوريا وهزم الجيشين وكان الظفر حليفه، لينقح المؤرخون العرب بأن حلب سقطت في يده بسبب رفض مماليك مصر مساعدة أهل الشام، نتيجة انشغالهم وصراعاتهم على الحكم.
يبقى التاريخ إلى يومنا هذا عِلما لكنه ليس حاسما دوما، فالنقاشات حوله غالبا ما تؤدي إلى خيبة أو صراع أو اختلاف، خاصة أثناء تحليل العلاقات بين السببية والنتائج المختلفة، كما أن الجزء السلبي من التاريخ لا يُعتمد دليلا قاطعا، وثمة أخيرا تنازلات في ما يتعلق بأحداث ماضية، من أجل أن يكون هناك ارتباط تاريخي بين الأجيال، على الرغم من إدراك المطلعين على حقائق الأمور المغالطات المنطقية في الكتابات التاريخية التي أدّت إلى هذه التنازلات.
عطفاً على ذلك كله، نتساءل: كيف يعاد بناء الماضي، في ظلّ اضطراب المصادر؟ فهل التاريخ دائما هو الحقيقة؟ وكيف له أن يكون مصدر فخر وهو مليء بأحداث دموية ماضية؟ وكيف له أن يكون عونا، وكل الأحداث التي يصفها تقاطعات معقدة للحقائق نفسها، وبالتالي للتحيز، ليبقى التاريخ وكتابته أمرين جيدين فقط حين تفسر المصادر بعناية، وتُحلّل تلك الأحداث والأفكار بموضوعية.
تبقى الحقائق الإنسانية ثابتة لا تتغير، فليس التاريخ سوى الإحساس بالهوية، أن نفهم من أين أتينا، ومن نحن. فالتاريخ يوفر الإحساس بالسياق في حياتنا، ويساعدنا على فهم الطريقة التي تسير بها الأشياء
هكذا يؤسس المؤرخون الحجج للمطالبة، للنزوح، للبناء، للإجابة، للمواجهة... وتبقى الحقائق الإنسانية ثابتة لا تتغير، فليس التاريخ سوى الإحساس بالهوية، أن نفهم من أين أتينا، ومن نحن. فالتاريخ يوفر الإحساس بالسياق في حياتنا. ويساعدنا على فهم الطريقة التي تسير بها الأشياء، وكيف يمكننا التعامل مع المستقبل.
أما الشفاء من ذلك كله، فيأتي بالتركيز على النقد الأدبي التاريخي، فهو ألطف وأعمق بكثير، إذ يمنح الموضوع التاريخي، أهمية من حيث الحدث وتأثيره على الإنسان نفسه، وتأثير الفترة الزمنية بأحداثها على حياة الناس من الطرفين، دون جدال ولا تحيز.