من الهزيمة إلى التحليق مع طائر الحوم
كتب حليم بركات روايته الأولى في سنواته الأولى بالجامعة فصدرت رواية "القمم الخضراء" عام 1956، ولكنه لفت انتباه النقاد بروايته التالية "ستة أيام" المنشورة عام 1961، والتي اعتبرها الكثيرون بمثابة استشراف لأحداث هزيمة يونيو/حزيران 1967، وتدور أحداث الرواية حول مدينة متخيلة أسماها "دير البحر" تتعرض لحصار كبير من الأعداء، ولا يبقى أمامها إلا الاستسلام للعدو أو الدمار.
إلا أن حليم بركات يتوقف بشكل أكثر تفصيلا، ويواجه تلك النكسة وما حدث فيها في روايته التالية "عودة الطائر إلى البحر" المنشورة 1969، وفيها نجد توثيقا لأحداث المأساة وإن كانت مقدمات الفصول جاءت شاعرية، ولكنه يحكي فيها بشكل مباشر وبعيدا عن الترميز ما حدث في أيام حرب 1967 في فلسطين ولبنان على التوالي، ويتحدث عن تلك العلاقة الملتبسة بين المواطن داخل المجتمع والدولة التي تريد أن تؤطر حركته ودوره، ويوجه بالتالي نقدا لاذعا للأنظمة العربية التي يرى أنها السبب في كل ما حدث من نكسات متتالية للعالم العربي.
بعد ذلك بأعوام وفي روايته "طائر الحوم" (دار توبقال 1988) يعود بركات إلى قريته "كفرون" ويسعى لاستعادة حياته التي يبدو أنه فقدها هناك، فيكتب رواية تنبض بالحنين إلى تلك الحياة التي تركها عالم الاجتماع الكبير ورحل إلى أميركا مدفوعا بشغفه العلمي وأبحاثه الأكاديمية، إلا أن المبدع أراد أن يعود إلى مسقط رأسه ويستعيد مواطن الطفولة والصبا، فجاءت "طائر الحوم" سيرة روائية ومحاولة للخلاص من حالة الرتابة الأكاديمية التي لحقت به في الغربة والمنفى، وينتقل في حكايته من الخاص إلى العام، ومن العلاقات بين المواطنين والمقيمين في أميركا إلى ما يجده العائد من منفاه إلى بلاده من تغير في المعاملة واختلاف في أساليب الحياة.
الروائي وعالم الاجتماع
يشير حليم بركات في حوار أجرته معه "الشرق الأوسط" إلى ربطه الدائم بين مهمته كعالم اجتماع واهتمامه الخاص بالأدب فيقول: "أعتبر الأدب مصدرا معرفيا مهما. فروايات نجيب محفوظ عن القاهرة لا تضاهيها أي دراسات اجتماعية ومثلها تلك الروايات التي كتبت في أوروبا أثناء الثورة الصناعية. شخصيا كان عندي دائما اهتمام بالأدب وتحديدا الرواية. لا بل درست علم الاجتماع ليفيدني في كتابة الأدب. وقد قمت بدراسة عن المخيمات الفلسطينية. لكنني شعرت بعد صدور الدراسة في كتاب أن شيئا إنسانيا كان ناقصا فسجلته في رواية".
كتب حليم بركات العديد من المقالات والدراسات والأبحاث التي تتناول تشريح المجتمع العربي ودراسة ظواهره وتغيراته المختلفة، وكان أول إصداراته في هذا المجال كتابه "المجتمع العربي المعاصر" عام 1984 والذي تناول فيه بشكل مفصّل الهوية العربية بين التنوع والتجانس، وتوقف عند ما يمكن أن يجمع العرب من ثقافة ومصالح اقتصادية وعادات وتقاليد اجتماعية، كما تحدث عن أنماط المعيشة وتغيرها من البداوة إلى الحضارة، وأشار فيها منذ وقت مبكر إلى أن المجتمع العربي يشهد تداعي الحدود الفاصلة بين هذه الأنماط، كما أن ذلك سينهي تدريجيا حالة العزلة والاستقلال الذاتي التي كانت تتميز بها المجتمعات الصغيرة نسبيا، وخصص قسما من الكتاب للتوقف عند الثقافة العربية فتحدث عن مصادر القيم وتنوعها بين الإبداع والاتباع، كما انتقل إلى الحديث عن الاتجاهات الأدبية في العالم العربي وعلاقتها بالواقع الاجتماعي، فتحدث عن ما أسماه بالأدب التوفيقي الذي ينطلق من تصور الواقع في حالة انسجام وتوازن ومصالحة، وأكثر ما يمثل هذا الاتجاه الأدب التقليدي (الكلاسيكي) ويجمع فيه بين رؤية العقاد الأدبية وتوفيق الحكيم في كتاباته، أما الاتجاه الآخر فهو الأدب النقدي الليبرالي الذي ينطلق من رؤية إصلاحية ويسعى إلى فضح النظام القائم، وإلى التجديد في اللغة والأسلوب، وفي الوقت نفسه يضم الكتاب نماذج مستسلمة منسحبة من الواقع تشعر بالغربة واللامبالاة (مثّل لها بروايات جبرا إبراهيم جبرا)، ونموذجا آخر يسمه بالخضوع فهو يفضح الواقع ويعدد مثالبه ولكنه لا يتمرد عليه ولا يدعو إلى الثورة عليه (ومثّل له بروايات محفوظ)، ونموذج ثالث يسعى إلى فرض التمرد الشخصي الفردي (مثّل له برواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح).
أما الاتجاه الثالث فهو الأدب الثوري، الذي يعد مغامرة في الشكل والمضمون والرؤية، يرى المجتمع العربي في حالة تناقضات وصراع في الداخل ومع الخارج، كما أنه يصوّر الإنسان في حالة اغتراب عن مجتمعه ومؤسساته ومصيره، ويرفض الثقافة السائدة ويُعنى بالخلاص المجتمعي وليس الفردي، ويرى حليم بركات أن جبران خليل جبران من أوائل من قدّموا هذا الحسّ الثوري في الأدب العربي المعاصر، وكذلك يوسف إدريس في عدد من أعماله مثل "الحرام" و"سره الباتع" ومسرحيتي "الفرافير" و"الجنس الثالث"، كما يشير إلى أعمال محمد ديب وكاتب ياسين والطاهر وطّار كنموذج آخر لهذا الأدب الثوري في الأدب العربي.
كما يتحدث بعد ذلك عن الاتجاهات الفكرية العربية المعاصرة وتاريخها بشكل موجز، وينتقل في الفصل الأخير إلى ما يراه من استشراف المستقبل، وضرورة انطلاق المجتمع العربي من حالة الاغتراب إلى التنمية والثورة وإقامة نظام عربي جديد.