موميكا ليس رجلا أبيض

موميكا ليس رجلا أبيض

حقّق اللاجئ العراقي سلوان موميكا، بداية بإعلانه نيّته حرق المصحف، ثم حرقه فعليا، ما أراده تماما، وهو جرعة من شهرة وهمية عابرة يعرف تماما أنها لن تتحقّق له من خلال المجتمع السويدي نفسه، وهو مجتمع معروف بجنوحه نحو التسامح، بل من المسلمين في السويد والعالم، الذين سيملأون المنصات الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي صراخا واحتجاجا على هذه الفعلة الشنعاء، وسيتجاوز بعضهم التنديد اللفظي إلى التهديد بسوء العاقبة لمرتكب هذه الفعلة، وقد يحاول بعضهم تحقيق هذا التهديد. وكلّ هذا سيصبّ في خدمة ما يصبو إلى تحقيقه هذا الشاب "التيكتوكي" الذي خاطب "محبيه" في فيديو قبل أيام دعاهم فيه إلى دعمه "معنويا أو ماديا"، على حدّ قوله، عندما سيقترف حرق المصحف أمام مسجد استوكهولم.

إلا أنه، ورغم تعبيرات الغضب والاستياء المفهومين تماما، لم يحدث (حتى الآن) ما أراده موميكا. وباستثناء حادثة مهاجمة سفارة السويد في بغداد، لم تخرج التظاهرات العارمة، ولا انتشرت أعمال التدمير والحرق والتخريب، لاسيما في السويد، ورغم سعي بعض الأطراف إلى استغلال الحادثة شعبويا، على غرار رئيسي تركيا وروسيا، اللذين وجدا في الأمر فرصة – كلّ من زاوية مصالحه الخاصة – لإدانة الحكومة السويدية نفسها التي سمحت بحدوث هذه الواقعة، إلا أن مشهد الغضب المنفلت من عقاله، لم يحدث. وبذلك أجهضت مساعي موميكا، ومن يؤيده، والأهم من ذلك، أن موميكا نفسه كان وحيدا خلال عملية الحرق تلك، فلم تتحرّك جحافل المعادين للإسلام دعما وتأييدا له، ببساطة لأنها وإن اتفقت معه في "الإسلاموفوبيا"، فإنها تختلف اختلافا بيّنا معه في مسألة معاداة اللاجئين الذين ينتمي إليهم الشاب الأحمق.

لم تتحرّك جحافل المعادين للإسلام دعما وتأييدا لموميكا، ببساطة لأنها وإن اتفقت معه في "الإسلاموفوبيا"، فإنها تختلف اختلافا بيّنا معه في مسألة معاداة اللاجئين الذين ينتمي إليهم الشاب الأحمق

سرعان ما سيكتشف موميكا، ورغم أنه أبيض اللون، أنه ليس "أبيض" بما فيه الكفاية بالنسبة إلى تلك المجموعات. فالبياض العرقي الذي تتوخاه الجماعات العنصرية المنادية بطرد اللاجئين وتحملهم كلّ شرور بلادهم وأزماتها، يختلف عن بياض موميكا. هو يظلّ بالنسبة إليهم لاجئا، أي جزءا من الكتلة التي يعتبرون أنها تنتقص من مكتسباتهم، وتتعارض مع قيمهم الثقافية والدينية وتدمّر هويتهم الأيديولوجية حاضرا ومستقبلا. وبالتالي، فإن قيامه بحرق نسخة من المصحف، لا يمكن صرفه في سوق العنصريات التي تسعى إلى "النقاء" المطلق المتمثّل في "بياض" ثقافي باهر يعمي العيون، وليس في كلمات رخيصة تتعهد بالولاء لأجندتهم وتستجدي رضاهم.

وحين يقول موميكا مخاطبا الشعب السويدي (اليمين المتطرف والعنصري في السويد وأوروبا) بأنه يجب أن يفيق على السرطان المنتشر في ظهرانيه، قاصدا بذلك الإسلام والمسلمين، فإن جوابهم البديهي والمباشر عليه سيكون: أنت جزء من هذا السرطان، فكونه لاجئا عراقيا (بالنسبة إلى نظرتهم العنصرية هذا يعني أيضا أنه عربي) يجعله جزءا من ذلك السرطان الذي تحذر منه تلك الجماعات المتطرفة وتدعو إلى استئصاله. وكما يدعو إلى طرد المسلمين فإنه سيجد دعوة أكبر وأكثر شمولا بين حملة الراية من العنصريين الأوروبيين، إلى طرد جميع اللاجئين بصرف النظر عن أفكارهم ومعتقداتهم. وهذا ما لا يدركه فتى ساذج اختار اللعب على وتر يبدو أنه لم يعد يطرب الكثيرين هذه الأيام.

إن لم يخب ظني، وانطفأت سريعا نيران هذه الفتنة الساذجة، مع نيران حرق نسخة المصحف، فهذا مؤشّر إيجابي على انتباهة مهمة في الوعي العام لدى المسلمين حول العالم، وهي دلالة على أمر مهم، وهو تراجع القوى الإسلامية المتطرفة التي كانت تتغذّى على مثل هذه الخطابات العنصرية، ومثل تلك الحوادث، لتشدّ عصبها وتزيد من استقطاب المريدين لها والمؤيدين لمنهجها ورؤيتها إلى عالم منقسم بين خير وشر، ومسلمين وغير مسلمين، ولعلها ليست مصادفة أن تتزامن محاولة اللاجئ العراقي الفتنوية الفاشلة، مع الذكرى التاسعة لقيام "داعش" في العراق، فما قام به ينتمي حرفيا إلى ذلك الزمن البائد الذي اعتقدت فيه مجموعة إجرامية أن بإمكانها قسم العالم فسطاطين، مستقطبة إلى مشروعها الانتحاري مئات الشباب الضائعي الهوية مثل اللاجئ العراقي، ممن عاشوا في الغرب، فلم ينتسبوا إليه تماما ولا كان في مقدورهم الانتساب إلى ثقافاتهم التي يفترض أنهم انحدروا منها.

قيام اللاجئ العراقي بحرق نسخة من المصحف، لا يمكن صرفه في سوق العنصريات التي تسعى إلى "النقاء" المطلق المتمثّل في "بياض" ثقافي باهر يعمي العيون، وليس في كلمات رخيصة تتعهد بالولاء لأجندتهم وتستجدي رضاهم

هذا كله لا يعفي حكومة السويد وغيرها من الحكومات الأوروبية، من واجب مراجعة قوانينها وإقامة توازن عادل في ما بينها. وحسنا فعلت بعض الدول العربية والمسلمة بتسجيل موقف دبلوماسي صريح وضاغط على حكومة السويد. فليس من العدالة أن يُتهم كلّ شخص يأتي على انتقاد إسرائيل أو الصهيونية (وليس اليهود) بمعاداة السامية مع ما يرافق ذلك من عقوبات صارمة، في حين يترك معادو الإسلام أحرارا طلقاء تحت ذريعة حرية التعبير والديمقراطية. فالديمقراطية التي تؤدّي في النهاية إلى سفك الدماء وتعيد خطر الحروب الطائفية والدينية والعنصرية، وتذكّر بأسوأ مراحل التاريخ الأوروبي، هي الديمقراطية نفسها التي جاءت يوما بهتلر وأمثاله إلى الحكم وكادت تقضي على جميع منجزات الحضارة الغربية.

font change