توقف العالم حين اجتاحته جائحة كوفيد19 قبل نحو ثلاث سنوات. أُغلقت المطارات، وحُرم الناس من السفر وهو إحدى ملذات الحياة الحديثة، علما أن الإنسان مفطور على التنقل والترحال. يقول الفيلسوف الإسباني جورج سانتايانا في كتابه "فلسفة السفر": "ما الحياة إلا شكل من أشكال الحركة ورحلة عبر عالم جديد لم يسبق لنا ارتياده!".
فالحركة والتنقل من مكان وآخر، امتياز للحيوانات باعتباره مفتاح أمان وطريقة للحفاظ على حياتها. وحتى النباتات تستعمل جذورها (يشبهها أرسطو بالأفواه التي تبحث عن طعام) لتضرب في الأعماق وتمضي باحثة عن الطعام متنقّلة من تربة إلى أخرى أكثر ثراء أو خصوبة. بيد أن النباتات، على عكس الحيوانات والبشر، لا تستطيع الهجرة، ولا تملك حاسة البصر ولا الخيال الذي يمكّنها من تخيل الكثير. ففي أفضل الأحوال، تحمل الريح بذور تلك النباتات إلى المكان الأفضل، وحتى أطرافها بالكاد تتحرّك ما لم تحملها الرياح، تستدير ببطء شديد نحو أشعة الشمس وتترعرع باستسلام دون أن تغير مكانها.
بالنسبة إلى الكثيرين، يعدّ التوق إلى تجربة الانتقال الحر نحو أماكن جديدة حول العالم الفسيح، سواء على شكل هجرة، أو حج، أو سفر للسياحة والاستكشاف، "ممرا للسعادة"، مثلما يحلو للكثيرين تسمية تجربة ولوج الطائرة.
لماذا نسافر؟ لطالما استُخدمت كلمة السفر أو الرحلة، تشبيها مجازيا في الأدب والفن للتعبير عن تجارب الحياة الانتقالية، المفضية إلى معرفة الذات وتطوير الهوية الذاتية. في رواية "الهروب من الاعتيادي" للكاتبة جولي برادلي أو رواية "الطريق” لجاك كيرواك على سبيل المثل، تخوض الشخصيات رحلة مليئة بجميع أنواع المغامرات، تلتقي خلالها الغرباء، وتواجه الصعوبات والأخطار، وتغيّر نظرتها إلى نفسها وإلى العالم. السفر – في هذا المعنى - وسيلة لتعريض النفس لعوالم مختلفة، واكتساب المعرفة الذاتية من خلال تجربة طرق أخرى للحياة، لا يمكن الحصول عليها دون تجربة كيفية تجاوبنا مع عوالم وثقافات غير مألوفة من خلال "وجودنا هناك".
لا يمنع أيضا أن يكون السفر بغرض إيجاد طرق بديلة للحياة الروتينية والاسترخاء والتشافي. لكن مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي أصبح البعض يسافر إلى وجهات "رائعة" بدافع "العائد الاجتماعي أي المكافأة الاجتماعية التي يحصل عليها بتوثيق الرحلة ونشرها، لجمع "اللايكات" مثلا على وسائل التواصل الاجتماعي. فهذا يعتبر تحولا في دوافع السفر من كونه سياحة لمعانقة العالم الأبعد وتحقيق الذات من خلال مواجهة طرق غامضة وجديدة إلى "سياحة ذاتية" لخلق صورة جذابة على وسائل التواصل الاجتماعي، أي لكسب الإعجاب وحب الظهور والتباهي. عندما تسافر إلى مكان بعيد تستوعب ثقافة ذلك المكان قدر ما تستطيع لأنك قد لا تعود إليه، فالعمر والوقت محدودان. وكما قال الإمام الشافعي:
تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا
وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ
تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ
وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ
وَإِن قيلَ في الأَسفارِ ذُلٌّ وَمِحنَةٌ
وَقَطعُ الفَيافي وَاِكتِسابُ الشَدائِدِ
فَمَوتُ الفَتى خَيرٌ لَهُ مِن حَياتِهِ
بِدارِ هَوانٍ بَينَ واشٍ وَحاسِدِ
بالنسبة إلى الكثيرين، يعدّ التوق إلى تجربة الانتقال الحر نحو أماكن جديدة حول العالم الفسيح، سواء على شكل هجرة، أو حج، أو سفر للسياحة والاستكشاف، "ممرا للسعادة"، مثلما يحلو للكثيرين تسمية تجربة ولوج الطائرة.
فهل السفر يجعلنا أناسا أفضل بحسب تصور الفلاسفة؟
ينقسم هؤلاء حول الإجابة عن هذا السؤال. فمنهم من يعتقد، على غرار فريدريك نيتشه، الفيلسوف الألماني، أنه لا ينبغي للمرء أبدا الوثوق بأي فكرة لم تولد في العراء، فكرة لم تخلق أثناء التنقل بحرية. ويتفق معه في الرأي نظيره الفرنسي، ميشال دو مونتان، إذ ينادي بضرورة "أن ينتعل المرء حذاءه دائما وأن يكون مستعدا للمغادرة". لكنّ فلاسفة آخرين تشككوا في قيمة السفر والافتتان به، ومنهم رالف والدو إيمرسون، الفيلسوف والشاعر الأميركي، الذي اعتبر أن الروح لا تسافر، وأن "الحكيم من يبقى في المنزل".
يتفق معه آلن دي بوتون، الفيلسوف البريطاني، إذ يرى أن السفر غالبا ما يكون مخيبا للآمال، بل ومملا، وغالبا ما يكون أكثر إمتاعا في الخيال منه في الواقع. بالنسبة إلى بعض الفلاسفة، السفر هو حياة مجازية ممتعة على الرغم من أنها قصيرة، وطريقة للوجود في العالم والعثور على المعنى، والحركة، والانفتاح على التغيير، والاندماج في تجربة غير مألوفة.
الكاتبة إيميلي توماس التي زارت ما يقرب من 80 دولة في حياتها، أثمرت عن صدور كتاب لها خلال جائحة كورونا، منشورات مطبعة جامعة أكسفورد بعنوان "معنى السفر: الفلاسفة في الخارج"، أعربت عن سعادتها كون كتابها صدر في أفضل وقت للتفلسف في شأن السفر دون أن نكون منشغلين بتجهيز الحقائب وحجز التذاكر؛ إنما نفكر في قيمة السفر والانتقال ونحن داخل الغرف. تقول: "يمكن أن يساعدنا الكتاب على التفكير بشكل أعمق في رحلاتنا بتصور جديد قد يزيد استمتاعنا وتقديرنا لها ويجعلنا على اتصال مع الآخر ويوسّع تفكيرنا ويقلّل تحيزاتنا".
من ضمن ما أشارت إليه أن الجولات الجماعية والمنتجعات المغلقة، على سبيل المثل، تفصلنا عن السكان المحليين وعن الثقافة، وتحرمنا من بعض جوانب السفر الأكثر تحدّيا، وإن كانت مفيدة، مثل تحدي التواصل بلغة ثانية تثري التجربة وتعززها.
ولكن، ماذا لو لم نجد هذا الامتياز، امتياز القدرة على السفر؟
قد يكون من الممكن أن نبتكر طرقا خيالية بديلة للسفر أسوة بالكاتب الفرنسي ريمون روسيل الذي صمم وبنى في عام 1924 "مركبة الأحلام" المتنقلة، وهي كناية عن منزل يسير على عجلات، طوله 10 أمتار، أو "يخت البري" كان يسافر به على متن الخيال، وسط دهشة سكان باريس، ليكتب فيه أعماله الإبداعية بعد أن يرخي الستائر متواريا عن العالم الواقعي.
وهناك من خاض مغامرة السفر إلى الفضاء، أو جازف بحياته في مغامرة الغوص بحثا عن المجهول، فلربما سيأتي عصر "السفر الافتراضي"، ويحلّ محل السفر الحقيقي، من يعلم! في النهاية الوسيلة لا تهم، بقدر ما يهمّ أن نصل إلى أنفسنا في آخر الطريق.