هل نجا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من التمرد الذي أطلقه ربيبه السابق يفغيني بريغوجين؟ ربما. ولكن ذلك لا ينفي جملة من التساؤلات الجدية التي تطرحها محاولة زعيم مجموعة فاغنر للإطاحة بالقيادة العسكرية الروسية حول قدرة بوتين على البقاء في السلطة في نهاية المطاف.
لأكثر من 24 ساعة بعد أن أعلن بريغوجين الأخبار الدرامية بأن قواته تتجه صوب موسكو، اختفى الزعيم الروسي فعليًا عن الأنظار، مما أثار شائعات بأنه قد فرّ من موسكو لتأمين سلامته.
وعلى الرغم من نفي مسؤولي الكرملين اللاحق للشائعات وتأكيدهم أن بوتين بقي بالفعل في العاصمة طوال الأزمة التي تبين أنها لم تدم طويلا، إلا أن غياب الزعيم الروسي، في جوهره، خلال أخطر أزمة تعصف برئاسته طوال 23 عاما، ما كان ليعزز ثقة الشعب الروسي في قدرته على تقديم القيادة القوية التي يرغبون فيها.
بل إن اضطرار بوتين إلى التراجع عن إعلانه الأولي بأن بريغوجين كان خائنًا ويجب محاسبته على خيانته، يشير إلى عكس ذلك تماما، إذ يبدو أن بوتين يصارع الآن من أجل إعادة تأكيد سلطته. ولم يمنع وقوع حرب أهلية كاملة بين الجيش الروسي الرسمي ومرتزقة فاغنر التابعين لبريغوجين إلا بفضل تدخل ألكسندر لوكاشينكو، رئيس بيلاروسيا المجاورة، الذي تمكن من نزع فتيل الموقف من خلال تزويد بريغوجين ومقاتليه بخيار البحث عن المنفى في بلاده.
بعد ظهوره العلني مجددا، حاول بوتين أن يوحي بأن الحياة عادت لطبيعتها، وكأن أمن الدولة الروسية لم يتعرض أبدا للخطر. هكذا كانت طريقة بوتين في التعبير عن تجاوزه لأشد أزمة واجهها منذ توليه الرئاسة.
بعد ظهوره العلني مجددا، حاول بوتين أن يوحي بأن الحياة عادت لطبيعتها، وكأن أمن الدولة الروسية لم يتعرض أبدا للخطر. هكذا كانت طريقة بوتين في التعبير عن تجاوزه لأشد أزمة واجهها منذ توليه الرئاسة
في خطاب قصير ألقاه بعد أن توسط لوكاشينكو في اتفاقه مع بريغوجين البالغ من العمر 62 عاما، حاول بوتين أن يبدي شهامته، فخيّر مقاتلي فاغنر بين الانضمام إلى الجيش الروسي، أو العودة إلى بيوتهم، أو الذهاب إلى المنفى في بيلاروسيا. ونظرا لأن العديد منهم مدانون سابقون أُطلِق سراحهم من السجن لغرض صريح هو القتال مع فاغنر في أوكرانيا، فمن المفهوم بالنسبة لهم أن يشكّكوا في أن السلطات الروسية ستسمح لهم حقا بالعودة إلى ديارهم والتمتع بحريتهم. وبالفعل، سرى حديث بين الدوائر الأمنية الروسية عن محاسبة أولئك الذين شاركوا في التمرد على أفعالهم، مما يشير، على الأقل، إلى أن المدانين السابقين الذين شاركوا في الانتفاضة سيعادون إلى زنازينهم.
أما بالنسبة لمصير بريغوجين، فلم يشر بوتين مباشرة إلى ربيبه السابق، وفضّل بدلا من ذلك أن يعلن أن منظمي الثورة خانوا الشعب الروسي.
وقال بوتين: "لديكم اليوم فرصة لمواصلة خدمة روسيا من خلال إبرام عقد مع وزارة الدفاع أو غيرها من وكالات إنفاذ القانون، أو العودة إلى عوائلكم وأصدقائكم، أما إذا أردتم الذهاب إلى بيلاروسيا، فالوعد الذي قطعته سيتحقق. أكرر: الخيار لك."
كما استخدم بوتين خطابه ليعزز صورته التي تلطّخت كزعيم بعد أداء إدارته السيئ خلال الأزمة، حين بدا كبار المسؤولين والضباط عاجزين في مواجهة تمرد فاغنر. ولكنه، من خلال توجيه الشكر للشعب الروسي على إظهار الوحدة في مواجهة المحن، وشكر قادة وجنود مجموعة المرتزقة على تجنب إراقة الدماء، بدا أنه يؤكد الانطباع بأنه قد انحدر إلى مرتبة المتفرج العاجز أثناء الصراع، وليس الرجل القوي الحازم كما يحب أن يصور نفسه.
بدا بوتين خلال الأزمة أنه يؤكد الانطباع بأنه قد انحدر إلى مرتبة المتفرج العاجز أثناء الصراع، وليس الرجل القوي الحازم كما يحب أن يصور نفسه
وبالتالي، فإن إعادة بناء سمعته باعتباره الرجل الأكثر تأهلاً لقيادة الشعب الروسي، سيكون غاية عسيرة لبوتين بعد الآن، خاصة وأن بريغوجين لا يُظهر أي علامة على التراجع فيما يتعلق بانتقاده المستمر لإدارة الكرملين للحرب في أوكرانيا.
وبعد أن نسب بريغوجين لنفسه الفضل في وقف زحف مجموعة فاغنر نحو موسكو، لم يُظهر أي رغبة في تخفيف حدة موقفه تجاه الكرملين، بل، على العكس من ذلك، تفاخر بأن قواته تظل أفضل المقاتلين في روسيا، وتباهى بأنه، من خلال شن غزوه المصغر لروسيا، قد علّم الجيش الروسي كيف كان ينبغي أن يدير حربه الأولية في أوكرانيا العام الماضي.
وفي تعليقاته بعد التمرد، زعم بريغوجين أن تمرده كان "درسا بليغا" في كيف كان يمكن لحرب روسيا على أوكرانيا أن تؤدي إلى سيطرة روسيا على أوكرانيا في غضون يوم واحد، لو كان هو المسؤول عنها.
في تعليقاته بعد التمرد، زعم بريغوجين أن تمرده كان "درسا بليغا" في كيف كان يمكن لحرب روسيا على أوكرانيا أن تؤدي إلى سيطرة روسيا على أوكرانيا في غضون يوم واحد، لو كان هو المسؤول عنها
ومع ذلك، فإن الانتقادات العلنية المستمرة من بريغوجين فيما يتعلق بطريقة تعامل الكرملين مع الغزو، ناهيك عن الصدمة المستمرة التي أصابت العديد من الروس بسبب التمرد الفاشل، تضع بوتين في موقف محفوف بالمخاطر. لقد تمكن بوتين، طوال فترة حكمه، من البقاء في السلطة في المقام الأول عن طريق قمع المعارضين السياسيين بلا رحمة، سواء من خلال نفي بعض أعضاء الأوليغارشية القوية مثل ميخائيل خودوركوفسكي إلى المستعمرات العقابية في سيبيريا أو التصريح باغتيال المعارضين البارزين مثل ألكسندر ليتفينينكو.
في المقابل، يشير فشل بوتين في اتخاذ إجراء ضد شخص مثل بريغوجين، الذي كان يعتبر في يوم من أشدّ المقربين إليه، إلى أن الزعيم الروسي قد لا يمتلك في الحقيقة تلك القوة التي يصورها للشعب الروسي.
وبالتأكيد، حين تشكك الصحافة، حتى التي كان الأشد تأييدا لبوتين مثل صحيفة موسكوفسكي كومسوموليتس اليومية، صراحة في قيادة الكرملين وتحذر من "العواقب السياسية العميقة" الناتجة عن الانقلاب الفاشل ، يصبح من الواضح بشكل متزايد أن أيام الرئيس الروسي بوتين قد تكون معدودة.