فرسان قبيلة عنزة في "إكسبو شيكاغو" 1893https://www.majalla.com/node/294551/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%81%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D9%82%D8%A8%D9%8A%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D9%86%D8%B2%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A5%D9%83%D8%B3%D8%A8%D9%88-%D8%B4%D9%8A%D9%83%D8%A7%D8%BA%D9%88-1893
قادت الأقدار عددا من فرسان قبيلة عنزة العربية البدوية للسفر إلى أميركا عام 1893 والمشاركة في "إكسبو شيكاغو"، إلى جانب فرسان عرب آخرين من أمراء بني حرفوش في البقاع اللبناني، حيث حققت عروضهم، التي امتزج فيها تمثيل الملاحم العربية القديمة بسباقات الخيول والهجن، نجاحا كبيرا لدى الجمهور الأميركي، الأمر الذي أسال لعاب مربي الخيول من مختلف أنحاء العالم الغربي، فحيكت حولهم الدسائس، واستغل المحامون وأصحاب الرهونات عدم معرفتهم بالقوانين الأميركية، فخسروا خيولهم الثمينة، لكنهم خاضوا تجربة لا تزال أصداؤها باقية في التاريخ الأميركي حتى اليوم من خلال نصف مليون حصان عربي أصيل معظمها من نسل خيول أولئك الفرسان الطيبين.
تكوّن الفريق من 120 رجلا وامرأة وولدا، و45 حصانا، و12 جملا وكلابا سلوقية. وشحنوا معهم نصف طن من حذوات الخيول، وصناديق تحتوي على مليون ونصف المليون من تذاكر الدخول بقيمة دولار واحد للتذكرة
دعوة للسلطان عبد الحميد
بدأت القصة حين تلقى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (1842- 1918) في التاسع عشر من فبراير/شباط 1891 دعوة رسمية من رئيس الولايات المتحدة الأميركية بنجامين هاريسون (1833–1901) للمشاركة في "إكسبو شيكاغو 1893"، وفور ذلك أصدر فرمانا بإنشاء لجنة تحضيرية للمشروع يرأسها الصدر الأعظم، تفرّعت عنها ثلاث لجان تمخّضت مناقشاتها عن ضرورة المشاركة بشكل واسع في هذا الحدث العالمي. لكن السلطنة لم تكن عندها صناعات، ولا منجزات تقنية تنافس بها الدول الناهضة في ذلك الوقت، فكانت العروض الترفيهية هي البوابة الوحيدة التي بإمكانها المشاركة فيها، نظرا إلى ما تمتلكه من تنوع جغرافي وبشري كبيرين.
في ذلك الوقت كانت ولايات ومتصرّفيات بلاد الشام قد قطعت أشواطا واسعة على صعيد الفنون البصرية، فاقتصرت المقترحات المقدّمة إلى السلطان على أبناء بلاد الشام، من قبيل: عروض مسرحية لفرقة أبو خليل القباني الدمشقي، ومقاهي الغناء البيروتية، وسوق المشغولات الدمشقية، وفرقة ملحم وردي للدبكة والرقص الشعبي من متصرّفية جبل لبنان. لكن أكثر المقترحات إثارة لاهتمام السلطان كان مقترحا قدمه إليه أحد مساعديه الدمشقيين، أحمد عزت باشا العابد (1852- 1924) تحت عنوان: "الميدان الحميدي للخيول العربية الأصيلة".
داحس والغبراء
كان صاحب الفكرة وجيها من مدينة عكا، في الجليل الفلسطيني، يدعى راجي بك صيقلي (1851-1910)، والده تاجر قمح وغلال كبير على صلة بالقبائل العربية البدوية، ومن المولعين بتربية الخيول العربية الأصيلة، وهو مؤسس أول فرقة مسرحية في فلسطين. لذلك امتزجت فكرته بالعروض الحية للخيول العربية الأصيلة، مع المشهديات المسرحية المقتبسة من التراث العربي، وخصوصا "معركة داحس والغبراء" بين قبيلتي عبس وذبيان، التي أراد تجسيدها بشكل حي في ميدان كبير.
منح السلطان عبد الحميد راجي بك امتياز المشروع، ودعمه بفرسين أصيلتين من اصطبلاته الخاصة، وبفارسين من مرافقيه كان عليهما تدريب فرسان البدو على قوانين الفروسية المتعارف عليها في العالم الغربي آنذاك. كان المشروع مكلفا للغاية، فبالإضافة إلى شراء الخيول بأسعار مرتفعة جدا، هناك أجور الفرسان والساسة والراقصين والعازفين والممثلين، وكان لا بد من نقل هؤلاء جميعا مع الخيول والجمال على متن سفينة خاصة مجهزة. وقُدّر المبلغ الإجمالي لكل ذلك بخمس وعشرين ألف ليرة ذهبية عثمانية، تعادل 112 ألف دولار أميركي، وهو مبلغ خيالي في حسابات ذلك الزمن.
طرح بعض رجال الأعمال من الولايات الشامية على راجي بك أن يشكلوا شركة مساهمة لتمويل المشروع، فوافق على أن يبقى هو مدير المشروع، فتألف مجلس إدارة من ثمانية أعضاء برئاسة الصحافي خليل سركيس (1842 – 1915) صاحب جريدة "لسان الحال". وبالفعل استأجر عضو مجلس الإدارة نجيب بك سرسق سفينة الشحن البريطانية "سنثيانا" من طراز كونراد، وجهزت بشكل كامل لنقل الفريق ومعداته وخيوله ومؤنه، وأبحرت السفينة من ميناء جونيه في 29 مارس/آذار 1893، ورست في ميناء نيويورك في 25 أبريل/ نيسان 1893، بعدما توقفت أياما عدة في ميناء جبل طارق.
تكوّن الفريق من 120 رجلا وامرأة وولدا، و45 حصانا، و12 جملا وكلابا سلوقية. وشحنوا معهم نصف طن من حذوات الخيول، وصناديق تحتوي على مليون ونصف المليون من تذاكر الدخول بقيمة دولار واحد للتذكرة، وبدأوا رحلتهم إلى أميركا. كان من بين الرجال كل مالكي الأسهم، وفرسان، وركاب جمال، وسبعة طباخين وخمسة بياطرة، وخمسة عشر كاتبا وبائع تذاكر.
سمعت أصوات شبيهة بقرع الطبول تعلن بعد الساعة الثالثة بداية عرض اليوم. وتمختر ثلاثون فارسا بألبستهم المزركشة والمذهبة والمطرزة. كل فارس كان يحمل رمحا بطول عشرة أقدام تقريبا، في حين كانت النساء العربيات يرددن الأهازيج الغريبة على وقع الموسيقى
فرسان وخيول من قبيلة عنزة
من بين أعضاء الفريق كان ثمة فرسان من قبيلة عنزة العربية البدوية التي كانت مضاربها تنتشر في ذلك الوقت من نجد والحجاز إلى بوادي الشام والعراق وعلى امتداد طريق الحج الشامي. وكان راجي بك يعرف هذه القبيلة جيدا من خلال علاقة والده القديمة ببعض أفرادها، فلذلك وثقوا به وسافروا معه إلى أميركا، وكان في مقدمهم أشهر خبير بالخيول العربية في المشرق كله، الحاج حسن العنزي الذي اصطحب معه فرسا تدعى نجمة، وفحلا يسمى عبيران.
بعد تعقيدات إدارية، ومشاكل بين أعضاء مجلس الإدارة، وحريق في الاصطبلات تسبب بموت بعض الخيول، قدم الفريق عرضا في مضمار "غارفيلد بارك" للخيول في شيكاغو يوم 25 مايو/أيار، حظي بتغطية صحافية ممتازة من معظم الصحف الأميركية، وكتبت جريدة "شيكاغو تريبيون" في عددها الصادر يوم 26 مايو/أيار ما يأتي: "قدّم البدو عرضهم الافتتاحي لسباق الخيول، ولكن الحزن سيطر على المشهد. عرض الخيالة مهاراتهم بأزيائهم أمام المدرج الذي امتلأ نصفه بالمتفرجين، إذ أن الإصطبلات تعرّضت لنشوب حريق في اليوم السابق، وقبل أن يصل رجال الإطفاء احترقت سبعة خيول عربية أصيلة، وثلاثة جمال، وبعد إطفاء الحريق تبين أن الجياد التي احترقت هي الأثمن. وقدرت الإدارة الخسائر بـ 44 ألف دولار أميركي، وكان بين الجياد المحترقة فحل الدبران الذي قدرت قيمته بعشرة آلاف دولار أميركي، والذي كان معارا من اصطبلات السلطان عبد الحميد".
وتابعت الصحيفة: "في الميدان سمعت أصوات شبيهة بقرع الطبول تعلن بعد الساعة الثالثة بداية عرض اليوم. وتمختر ثلاثون فارسا بألبستهم المزركشة والمذهبة والمطرزة. كل فارس كان يحمل رمحا بطول عشرة أقدام تقريبا، في حين كانت النساء العربيات يرددن الأهازيج الغريبة على وقع الموسيقى.إلى اليمين اتخذ بنو عبس موقعهم مقابل بني مرَّة. واصطف حملة الرماح من بني مرّة في المقدمة مقابل بني عبس. لقد كان هؤلاء يؤدون عرضا مسرحيا... اختُطفت سعدة، الفتاة الجميلة من بني مرة، وظهر فارس على حصانه ولوّح برمحه نحو خيام بني عبس، ولكن أصوات النساء كانت تطلق صرخات الحرب. وعلى الجانبين ارتفعت الموسيقى التي تدعو الفرسان لحمل السلاح".
وأضافت "شيكاغو تريبيون": "واستدار المحاربون وتوقفت الموسيقى ليعلو صوت عويل النساء الذي كان يسمع من آخر الميدان. بعد ذلك خرج من كلا الجانبين كوكبة من الفرسان يتباهون بحللهم الملونة ويشهرون سيوفهم العربية. كانت الموقعة قصيرة وسريعة، وعادوا لينطلقوا مرة أخرى، إذ أن قبيلة عبس قد هزمت وأعيدت العروس سعدة إلى قبيلتها ليحل السلام بعد ذلك والاحتفالات. وشكلت النسوة حلقات ليغنين الأهازيج. وظهرت حواجبهن الرفيعة وأساورهن الفضية وهي تلمع".
دسائس ومؤامرات
سال لعاب مالكي الخيول الأميركيين والبريطانيين على خيول الميدان، فبدأت الدسائس والمؤامرات لإفشال المشروع والاستحواذ على جميع الخيول بشتى الطرق، وفي ذلك يقول بن هور محرر مجلة "حصان الغرب الأميركي": "جاء إلى معرض شيكاغو أناس من مختلف أنحاء العالم. وقد لقي عرض البدو والخيول الجميلة اهتماما كبيرا. فمن إنكلترا وصل القس ف. فيدال، ومربي خيول عربية وصحبه برفقة راندولف هنتينغتون، وأويستر باي من نيويورك، وج.آ.ب. رامسديل من نيويورك الذي نجح أخيرا في الحصول على الفرس نجمة. وكان بيتر برادلي، وهو صناعي من بوسطن، من ولاية ماساشوستس، مهتما جدا بزيارة عرض البدو في شيكاغو. ومنذ ذلك الحين بدأ محاولاته لشراء خيول عربية. ربما كان الأثر الأكبر لمعرض شيكاغو العالمي على رسام الكاريكاتور هومر دافينبورت الذي أغرم بالبدو وخيولهم. ومنذ ذلك الحين أصبحت الخيول بمثابة طموح العمر له، مما دفعه لأن يذهب إلى الصحراء ويشتري خيولا عربية. وقد حقق طموحه بمساعدة مالية من بيتر برادلي الذي شاركه في استيراد الخيول عام 1906".
ومن الذين أسال عرض الخيول العربية لعابهم، مبتكر عروض الغرب الأميركي المتوحش الضابط السابق بوفالو بل كودي Buffalo Bill والذي كان يطوف بها في الولايات المتحدة والعالم، حيث كان يمثل معارك حية مع الهنود الحمر، فبعد مشاهدته عرض البدو العرب صمّم على إدخالهم في برنامجه الفني، ونتيجة حيل ودسائس استقطب خمسة من الفرسان البدو وادخلهم في عروضه.
قلما وجد مربٍّ للخيول لم يحصل على واحد أو اثنين من هذا النسل من الخيول العربية. فهذه السلالة ذات الدم الأصيل تعد جزءا مهما من الخيول العربية في الولايات المتحدة الأميركية التي يزيد عددها اليوم على نصف مليون رأس
الحاج حسن العنزي
نقل بن هور عن مبعوث السلطان عبد الحميد أوهانيس أصدقيان، وهو مهندس زراعي أرمني، وصفه للفريق البدوي: "كنت على اتصال يومي مع هؤلاء الرجال، وعرفت كل رجل وامرأة وولد بالاسم ولم يكن هناك سؤال لم يرغبوا بالإجابة عنه حول أصول الخيول وتاريخها. كان بينهم الحاج حسن، وهو من بدو عنزة الأصلاء. قضى عمره في تجارة الخيول بين قبائل الصحراء، وكان يستعان به أحيانا من قبل الحكومة العثمانية لشراء خيول للفرسان من حلب إلى مصر واليمن. كان معروفا على أنه أفضل العارفين بالخيول العربية في البلاد... لقد أرسلته شركة ميدان الخيول الحميدية إلى عشائر عنزة لشراء الخيول، فاشترى 11 حصانا من الـ 45 حصانا التي أحضرت إلى شيكاغو".
وأضاف أصدقيان: "هذه الخيول الأحد عشر كانت لها وثائق مكتوبة تبين أصولها، وقد رأيت هذه الوثائق وسجّلت ملاحظات عليها. وأستطيع القول إن هذه الخيول كانت من بين أنقى الخيول العربية نسبا في الصحراء".
نصف مليون حصان عربي
ولعدم خبرة الطاقم الإداري بالقوانين الأميركية وتعاملات شيكاغو في ذلك الوقت، دبّت المشاكل بين الفريق، وخضعوا لنصائح سيئة من بعض المحامين الأميركيين، أدّت في نهاية المطاف إلى خسارة الشركة لجميع خيولها لصالح أصحاب الرهونات في شيكاغو. نتيجة لذلك تأسس في الولايات المتحدة نادي الحصان العربي، وكانت الفرس نجمة من سلالة كحيلان العجوز، والفحل عبيران من سلالة صقلاوي عبيران، هما صاحبا الرقم واحد واثنان في السجل الرسمي لسلالات الخيول العربية في أميركا، حيث أنجبا 13 ولادة في سجل السلالات. بعد سنوات سجل فرسان وحصان على أنها من ذوي الأهمية، وهي الفرس غالفيا ذات الرقم 255 وهي من سلالة حمداني سميري، والفرس برايد ذات الرقم 321، والحصان معنقي ذو الرقم 294 من سلالة معنقي. إضافة إلى الفرس حسنة من سلالة معنقي حدرجي، والفحل حالول من سلالة كحيلان راس الفداوي، والفحل قبابي من سلالة صقلاوي شيفي. وقد سُجّل نسل هؤلاء أيضا، ولا يزال نسلهم يسجل حتى اليوم، وقلما وجد مربٍّ للخيول لم يحصل على واحد أو اثنين من هذا النسل من الخيول العربية. فهذه السلالة ذات الدم الأصيل تعد جزءا مهما من الخيول العربية في الولايات المتحدة الأميركية التي يزيد عددها اليوم على نصف مليون رأس.