إذا صحوت مبكرا في يوم عيد الأضحى، أو الفطر، في باريس، فإن أكثر ما سيلفت نظرك هو المظهر الكرنفالي الذي يكسو به المسلمون شوارع وأحياء هذه المدينة التي يحمل أبرز شوارعها أسماء قدّيسين مسيحيين.
فالمسلمون هنا، كما في مختلف المدن الفرنسية، يتجمّعون في ساحات كبرى، تُخصّصها البلديات لإقامة صلاة العيد، إذ أن المساجد المنتشرة غير كافية لاستقبال الأعداد الكبيرة، مع هذا تبقى مفتوحة لأداء الصلاة في الأحياء والمدن بما في ذلك مسجد باريس الكبير، وهناك الكثير من الكنائس التي تفتح أبوابها للمسلمين في الأعياد ليؤدوا صلاتهم فيها. ويلاحظ تنظيم أفراد الكشافة من الشباب المسلم والجمعيات الإسلامية هذه الشعائر إلى جانب المتطوعين، ويلقي خطبتي العيد أئمة من أصول عربية وأفريقية باللغتين العربية والفرنسية، وفي بعض التجمعات يتولى الإمامة والخطابة فرنسيون اعتنقوا الإسلام.
إنّه يوم بهجة وتآخٍ في بلد تعد كلمة "أخوّة" أحد شعاراته الثلاثة الرسمية الكبيرة، وهذه البهجة الكرنفالية تلوح أكثر لغير المسلمين وهم يرون هؤلاء بعد أداء الصلاة وقد امتلأت بهم شوارع باريس وأحياؤها
إنّه يوم بهجة وتآخٍ في بلد تعد كلمة "أخوّة" أحد شعاراته الثلاثة الرسمية الكبيرة، وهذه البهجة الكرنفالية تلوح أكثر لغير المسلمين وهم يرون هؤلاء بعد أداء الصلاة وقد امتلأت بهم شوارع باريس وأحياؤها، في أزيائهم التقليدية المحلّية التي يأتون بها من بلدانهم الأصلية، فتميّز المسلم المغربي عن المسلم التونسي أو الجزائري أو الموريتاني، كما يرون الأزياء الباهية التي يرتديها النساء والرجال الأفارقة والأتراك والهنود والأفغانيون والباكستانيون والإيرانيون والأندونيسيون والماليزيون والشيشانيون وغيرهم، كما تُلاحظ نقوش الحناء في أيدي السيدات وتُشتمّ روائح بخورهن العربي، وخلال ساعة، أو ساعتين، يشعر المرء أنه في شارع عربي أو إسلامي في يوم عيد، حيث يذهب معظم هؤلاء بعدها إلى أعمالهم، وبعضهم يستفيد من منح القانون حق الغياب بموافقة خاصة من أجل مناسبات دينية لا تحسب من العطل السنوية المقرّرة. ويشهد بعض المدارس والجامعات تغيّبا ملحوظا للطلاب المسلمين في هذا اليوم، ونتيجة لذلك طلبت أجهزة الشرطة في مدينتي تولوز ومونبلييه من بعض المدارس الإبلاغ عن عدد الطلاب الغائبين في عيد الفطر الماضي، مما أدّى إلى احتجاج بعض السياسيين الفرنسيين. وقال عميد مسجد باريس الكبير إن تصرّف وزارة الداخلية الفرنسية "يتناقض مع مفهوم الحرّية الدينية في البلاد" موضحا أن "هناك نظاما داخليا يسمح للطلاب بالتغيب عن المدارس في فترة الأعياد الدينية"، واعتبرت مسؤولة في وزارة الداخلية أن ما قامت به الوزارة "ليس اجراء انتقاميا وإنما هو إجراء إحصائي كي يتسنى للوزارة معرفة مدى تأثير المناسبات الدينية على سير وعمل المؤسسات الحكومية، والمدرسية منها على وجه الخصوص".
وفي الحقيقة، المجتمع الفرنسي ليس عنصريا على الإطلاق، كما يصوّره الإعلام المضاد، فهناك من يشارك المسلمين احتفالاتهم، بل إن جمعيات مسيحية تقوم بعمل مهرجانات وتجمعات في هذه المناسبات للمسلمين اللاجئين لكي لا يشعروا بغربتهم أثناء أعيادهم. ويكفي أن المرشح الرئاسي السابق لليمين المتطرف والمعادي للمهاجرين إريك زمّور يستقبله معظم الفرنسيين بالتظاهرات الاحتجاجية في كل المدن التي يزورها لتوقيع أحد كتبه.
مع هذا، لا تمضي مناسبة عيد الأضحى دون منغّصات للمحتفلين والسلطات معا، فإذ يعتبر البعض أن عليه القيام بذبح أضحيته من الأغنام بيده وفي منزله، تعتبر السلطات أن ذلك يخالف القوانين المعمول بها، فتجنبا لمنظر الرؤوس المقطوعة والدماء المسفوكة وحفاظا على معاملة جيّدة للحيوانات لا يسمح القانون الفرنسي بذبحها خارج محلاّت الجزارة المختصة باللحم الحلال، أو خارج ما توفره المساجد من أضاحي في عملية منظّمة.
عادة ما تُعمل أرقام في آلات على آذان الحيوانات التي تتربى بالمزارع فيصبح من الصعب إخفاؤها، وإذا لُقي رقم بعد الذبح أو أي آثار فإن الذابح يتعرّض لعقوبة غير بسيطة. وبسبب هذه المتطلبات القانونية وارتفاع أسعار الأغنام يكتفي الكثيرون بشراء لحوم بالكيلوغرام خلال أيّام العيد.
المجتمع الفرنسي ليس عنصريا على الإطلاق، كما يصوّره الإعلام المضاد، فهناك من يشارك المسلمين احتفالاتهم، بل إن جمعيات مسيحية تقوم بعمل مهرجانات وتجمعات في هذه المناسبات للمسلمين اللاجئين
وإذا كان إرنست همينغواي قد وصف باريس في عشرينات القرن الماضي بالعيد المتنقل، فإنّ أعياد المسلمين (يبلغ عددهم 6 ملايين) تصير أحد أوجه فرنسا كلّها، ولا تقابلها سوى ليلة عيد ميلاد المسيح. لكن ما يجري في باريس، وبعض المدن الفرنسية، يختلف عن مدن كثيرة أوروبية، فباستثناء لندن، نجد المسلمين في معظم هذه المدن يعيشون شبه عزلة عن المجتمعات المحيطة بهم، ويحدث بعض التنمر والاستغراب لأي مظاهر احتفالية غير معتادة، وهو ما تمارسه، أيضا، قلّة من متطرفي اليمين في فرنسا التي تعتقد أن الإسلام هو الخطر الكبير المهدد لمستقبل أوروبا عامة. لهذا صار هؤلاء لا يتقبلون انتشار الرموز الإسلامية كالحجاب والشعائر الاحتفالية الدينية، في وقت يربط آخرون تنامي الإرهاب وانتشار الجريمة والمخدرات ومخالفة القوانين العامة بالجاليات المهاجرة، ومنها الجالية المسلمة، وهو ما أدّى إلى قلق اجتماعي حفّز سياسيين على اقتراح قوانين هجرة أكثر تشدّدا في بلد تشير التقارير فيه إلى أن واحدا من أصل ثلاثة فرنسيين جاء مهاجرا، أو من أصل عائلة مهاجرة.