بيروت: يورد الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل في كتابه "يوميات القراءة" قصة اختراع مصطلح الحنين في فقرة منحها عنوان "منتصف الليل" قائلا: "اخترعت كلمة نوستالجيا في 22 يونيو/ حزيران 1688 بواسطة يوهانس هوفر طالب طب ألزاسي إذ جمع كلمة "nostos" (عودة) وكلمة "algos" (ألم) في أطروحته الطبية لوصف المرض الذي يعاني منه الجنود السويسريون بسبب ابتعادهم عن جبالهم".
كان المصطلح، في أصل نشوئه، يرصد الألم الناتج من الابتعاد عن الديار والرغبة في العودة إليها، والذي ينجم عنه اختلال عام في الوظائف الجسدية وفي القدرة على الحكم والتصرّف والمبادرة إلى درجة أنه كان يوصف بأنه أحد أنواع المسّ الشيطاني.
درجة خطورة مرض الحنين جعلته يحتلّ المركز الثاني بعد الهستيريا مباشرة في التصنيف المرضي خلال القرن السابع عشر. يوثق الباحث الفرنسي البريطاني توماس دودمان في كتابه "النوستالجيا: تاريخ شعور مميت"، سيطرة الحديث عن انتشار "وباء الحنين" في أوساط النخب السياسية والصحافية، ويعرض الأحوال التي تعتري الجنود المشاركين في حملات نابليون والجنود المنتشرين في المستعمرات البريطانية والفرنسية، كما يؤكد أن حصيلة ضحايا هذا "الوباء" تفوق عدد الضحايا الناجم عن الأعمال الحربية المباشرة.
لم تكن النظرة إلى الحنين تتسم بالسلبية وحسب، بل كانت تفترض ضرورة مواجهتها ومكافحتها والتخلص منها، لأنها كانت بنية اضطراب عام لا يجتاح الأفراد فحسب، لكنه يخرّب طموحات الدول وآمالها ومشاريعها التوسّعية ويؤثر سلبا على الأمن والاقتصاد والسياسة.
استقلّ تفسير معنى الحنين عن الإطار الطبي المرضي في القرن التاسع عشر حين حوّله الشعراء إلى نوع من الثيمة العاطفية التي تعبّر عن التوق إلى العودة الى لحظات صافية وحميمة. وتدين تصوراتنا المعاصرة بأصولها إلى تلك المرحلة التي نشهد تجلياتها في الكثير من النصوص الأدبية والشعرية الريادية، والتي إذا ما نظرنا إلى مغزاها بشكل مستقلّ عن جمالياتها اللغوية وأسلوبها لوجدنا أنها تعادي العقلانية ومفاهيم المدينة والعيش المعاصر.
وكانت موجات الحنين قد بدأت تتراجع في الفترة التي سبقت انفجار أزمة فيروس كوفيد 19. يمكن رصد العودة إلى الماضي كأثر بعيد المدى، من آثاره التي فكّكت الإيمان بالحاضر المتين والمستقبل السعيد الذي يبثّه التطوّر التكنولوجي. العالم الذي بدا عاجزا على الرغم من تطوره عن حماية الناس وتأمين الرعاية الصحية والنفسية لهم، لم يعد مرغوبا لا في حاضره ولا في وعوده المستقبليّة. ارتدّ الناس خلال فترة انتشار الجائحة إلى الإيمان بقوة الماضي الذي صار النقيض التام لحاضر أسبغوا عليه كل مواصفات الثبات والأمان، وقد استمر النزوع نحو تعزيز الماضي بعد الجائحة وخلق موجة من التأثيرات السياسية والثقافية طالت كل بقاع العالم بأشكال تتفاوت في درجتها وحدّتها لكنها تشترك في طبيعتها ومعناها.
اكتسى عالم ما بعد كورونا بطابع الحنين المفرط إلى أزمنة غابرة، وأسّس لنزعات تعزل الأفراد عن حاضرهم وتجعلهم أسرى تذكّر مرضي، تثبت الدراسات المعاصرة حول الذاكرة، أنه ليس فعليا ولا واقعيا، فالناس لا يتذكرون لحظات معينة بل يختلقون سياقات شعورية ترتبط بأحداث معيّنة عبر عملية فرز وتأويل مستقلين عن الواقع العام والظروف المحيطة، ويحيون فيها.
لا يزال هذا المفهوم يثير الكثير من الجدال. النظريات النفسية المعاصرة ترى فيه نزوعا حميدا، فوفقا لمجلة "سايكولوجي توداي" لا يشكل الحنين حالة مرضية بل يمكن النظر إليه على أنه سياق يتيح وصل الأشخاص بذواتهم في إطار تكاملي والتواصل مع أنفسهم في أطوار مختلفة. فيغدو الحنين في هذا المقام عنصر بناء وليس ردّ فعل سلبيا على الحاضر. نظريات أخرى تتحدّث عن الدمج بمعنى استحضار الماضي في سياق كلّي حتى تشمله اللحظة الحاضرة ويشكل جزءا من حركتها ومنطق استيلاد المعاني فيها. ولكن يبقى السؤال عن كيفية صناعة الحنين وتلقيه في السياسة والعاطفة في عالمنا المعاصر، وهل تفيد التعريفات المختلفة في وصف آليات عمل الحنين التي باتت كونية وشاملة وصانعة للسياسات ومؤسِّسة لأكثر الخطابات السائدة فعالية وشيوعا؟