كيف يمكن لشخص أن يقيم دورة مدفوعة الأجر، أمام الجماهير العريضة، بعنوان "كيف تصبح مليونيرا في أسبوع" وقد صدر بحقّه حكم قانوني بإيقاف خدماته البنكية؟ هذا الشخص كان محلّ سخرية كثيرين ممن علّق بعضهم: يعلّم الناس تطوير الذات، وعليه حكم بإيقاف خدماته! إنها سخرية مستحقة فعلا.
بطبيعة الحال، نتعاطف مع كلّ إنسان يصدر بحقّه مثل هذا الإجراء، ومع كل من يعاني أوضاعا صعبة، لكنّ هذا لا يمنع تعرية من يحاولون الاحتيال وسرقة أموال الناس بمثل هذه الأساليب الفاسدة. لقد انحرفت كتب تطوير الذات انحرافا كبيرا وأصبحت تجارة وتعاليم للاحتيال. في الولايات المتحدة الأميركية صدرت أحكام قضائية بسجن بعض هؤلاء الناس، ومنهم من ظهر في فيلم "السرّ"، بسبب التهوّر والمشاركة في تجارب أزهقت الأرواح.
من حيث المبدأ، لا أحسب أن عاقلا يمكن أن يقف ضد تطوير الذات، فهو أمر مطلوب، أن تطوّر عقلك ومعارفك وتحسّن حياتك لا أن تبقى على حالك. لكنّ التطوير يكون من خلال المعرفة والعلم الصحيحين. وقد كتبت سابقا بحثا يُرجع كل مقولات جماعة تطوير الذات إلى أصولها ومبدئها الأول، إلى الفلاسفة: لاو تزو وسقراط وأفلاطون وديكارت وغيرهم كثير.
المشكلة تكمن في أن كتب تطوير الذات التجاريّة تجاوزت كلام عظماء الفلاسفة ودخلت في احتياجات الإنسان المباشرة في عصرنا هذا، وتتمحور كلها حول كسب الملايين والشهرة والحب. ولو أخذنا المال، بمعنى ملايين الدولارات، لا المال الكافي للعيش الكريم، فيا لها من مشكلة عويصة أن نربط سعادتنا بها. نسبة قليلة في كوكبنا، قد لا تصل إلى 5% هي التي تحقق هذا المقدار من المال. هذا ما تقوله الإ.حصاءات. أما الباقون فعليهم انتظار سقوط الملايين من السماء بمجرد تكرار عبارات وتعاويذ لن تفيدهم في شيء. انتظار لن ينتهي أبدا بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة.
المشكلة تكمن في أن كتب تطوير الذات التجاريّة تجاوزت كلام عظماء الفلاسفة ودخلت في احتياجات الإنسان المباشرة في عصرنا هذا، وتتمحور كلها حول كسب الملايين والشهرة والحب
لماذا نربط السعادة بتوافر الملايين في حساباتنا البنكية؟ السعادة أسهل من ذلك بكثير. عندما يكون لديك ما يكفي من المال لسد حاجاتك وحاجات من تعول، فهذا يكفي لأن تكون سعيداً. عندما تفاجئك الأسرة بتذاكر لحضور فيلم سينمائي أو لمباراة في كرة القدم فهذا كله كفيل بإحداث البهجة، ولا تحتاج السعادة إلى أن تمتلك الملايين في حسابك البنكي، خصوصا عندما تتذكر أنك ستموت قبل أن تنفق منها إلا القليل، عندما تجدها.
من الضروري أن يدرك الناس أن تطوير الذات ليس علما موضوعيا، بل هو من قبيل المعارف الذاتية والتجارب الصوفية. ليس بإمكانك أن تتحكم في مصير أحد ولا أن تجعل أحدا يحبك. ليس بإمكانك أن تستخدم مثل هذا التعاليم لكي تنال وظيفة معينة ترغب فيها. ليس بإمكانك أن تصبح مليونيراً من خلال قانون الجذب. كل هذه أوهام، وهناك من أثرى من بيع الناس الأوهام، كما أثرى من قبلهم من باعوا الناس الهواء.
ما الممكن إذن؟ فكرة تطوير الذات، مثلما يدلّ اسمها، ذاتية في المقام الأول. هذه ميزتها التي قد تنفع الناس. أن يدرك المرء أن التفاؤل يحسّن مرور أيام الحياة. أن يحمي عقله من الأفكار السوداء، وأن يدرك ألا عدو له سوى الخوف والغضب والحزن، وما يتفرّع عنها كالقلق والألم واليأس. أن يدرك المرء عظمة اللحظة عندما يكون خالي البال، جالسا في بيته آمنا مستمتعا بكوب من الشاي وبالإصغاء إلى قطعة موسيقية خلابة كتبها باخ أو موزارت. أن يجلس مدركا أن لا ماضي يحزن عليه، ولا مستقبل يخاف منه، لا شيء سوى هذه اللحظة الطويلة الممتدة التي نسميها لحظة الآن. مثل هذا السلام، يجعلك حريا بكل خير مقبل، دون أن تقيد هذا المقبل بشروط مستحيلة في ذهنك.