جورج شحادة الشاعر الينبوعي

جورج شحادة الشاعر الينبوعي

شاعر الدهشة جورج شحادة (1905-1989). ودهشته منه. من مكانه الخاص. من مكانه الآخر، فهو لا يشبه سواه. لا مرجعيات آسرة. لا مدارس ذات قوانين ونُظم وبيانات. فوق المدارس. والعرائض، وما يأتي من قبل القصيدة وحتى من بعدها، فيضٌ بلا تاريخ. وأكاد أقول بلا تخوم.

رأى السورياليّة. اقترب منها. خلبته حينا، تنفَّسها. جاوَرَها. غَرَفَ منها. استشفّها. راودها. راودته. في البدايات، في الشغف الأوّل، ثم ابتعد على غير مجافاة، أو عدائية، كما فَعَلَ بريفير وأرتو اللذان هَجَوَا بروتون بالمقذع واللاذع، وكما فعل رينه شار إذ قال: "لو رمينا كل السورياليّة في البحر لما تغيّر شيء" ("قفازات الحديد"). ربما كانت السورياليّة قاسية عليه. قفازاتها الحديد لا تتحملها أصابع من ماء. ربّما كانت قسوتها قاسية عليه وقاسية على العالم. وعلى اللغة. وعلى الناس. دهشته لا تطلع من حالة تدميرية وهجائية للعصر والحضارة كما هي الحال عند الدادائيّين والسورياليّين وقبلهم عند المستقبليّين في روسيا بداية القرن (قبل الثورة البلشفية) وفي إيطاليا ورومانيا من حيث جاء "الزعيم" تريستان تزارا متأبّطا جنون الدادائية الذي ألهب باريس قبيل العشرين، وحطّم اللغة ودمّرها وجعل ما حولها حطاما وركاما.

شحادة يُطلّ من عالم فردوسي جميل، بلا براثن، حالم أخوي، عذب، قلّما تنفر منه تناقضات وزوايا حادة، وخشونة. قلّما يلتمع فيه القتل الطويل (وإن كان الموت غالبا ما ينتظر أبطاله في آخر المطاف، أو في آخر الغابة)، قلّما يبرز عنده هذا التحدي للمقدسات كما هي الحال عند أهل "العبث" واللامعقول (بيكيت، يونسكو، إدوارد بوند، ستوبارد، بنتر)... كأنه يروي بذلك وهو عاشق الحكايات (كالأطفال تماما) كيف يتكوَّن العالم في كل لحظة. كيف تنهض العناصر عارية في كل لحظة. كأنما ينبوع ينضم باستمرار إلى مائه. لهذا ربما لا يحب شحادة أن يكون شاهدا على النهايات والكوارث وسقوط الأشياء. وهذا ظاهر في شعره، كما في مسرحه.

من يعرف شحادة يعرف كم يشبه شعره. كأنه طالعٌ من إحدى شخصياته المسرحية. من إحدى قصائده: نحيل كشِعرِه. شافّ كشِعره. عذْب كشعره. كل ذلك يجعله يتعامل مع العالم كما تهب نسمة على حديقة، أو كما يفوح ينبوع على ينبوع. كأنما "عاطفيّته" الشرقية المقبلة من موروث عميق حَمَتْهُ. فهل هو شاعر رومانسي لغنائيته؟ ربّما! لكن رومانسيته "خدّاعة" تلتحق بغنائيّة هي على صفائها، وعذوبتها وفطرتها الظاهرة، تنحو إلى الجمالي الصعب، وإلى الصافي في اللغة، إلى التطهيري، والمكثّف. ليكسر بذلك إنشائية الرومانسيين السهلة حتى التبسيط (أحيانا) ويكسر كذلك برفق نموذجية الرمزيين الثنائية الباردة عموما (هنا يمكن الكلام على استفادته من السورياليين، لكن من دون تبنّي "شعاراتهم" حول "الكتابة الآلية"). وعنده العفوية (أو "تفجير اللغة")، وعنده تدفقها (أو المصادفة "موضوعية" أكانت أم غير موضوعية)، وعنده امتزاج المخيّلة بالواقع (أو المجانية المستسهلة). امتصّ من السورياليين كسر البوحي بالغريب (تقريب عناصر متباعدة بلا صلة)، واليومي بالسخرية، والصورة ذات المرجعية بالصورة المفتوحة.

لا يحب شحادة أن يكون شاهدا على النهايات والكوارث وسقوط الأشياء. وهذا ظاهر في شعره، كما في مسرحه

 

على أننا نظن أن تكوين جورج شحادة الشرقي (اللبناني) ساهم المساهمة الأساسية في تشريع القصيدة على السِّرّي، واللامألوف، خلال ذاكرة مُعبّأة بالحكايات والأقاصيص والخرافات، لذا يبدو شحادة شاعر "حكايات". يروي دائما بشِعره، ينفتح كصندوق فرجة غريب، لتتدفّق الصور ويتدفق معها صوت الرواية أو "الحكواتي"، الشّفوي. لهذا، ربما، لم تغادر قصيدة شحادة "الشّفوي" مغادرة نهائية، ولم تلتحق التحاقا تاما بالكتابي. على أن الشّفوي عنده من فرط ما يشفّ، أقرب إلى الصوت النحيل، الهامس، حتى درجات الصمت، منه إلى الشفوي العالي أو المبسّط. لذا يصعب إلقاء شعر شحادة. إنه "أَصمت" من أن يُعلن بصوت، أو بحنجرة، أو في مدى. إنما تحكيه كحكايات "الوسادة" همسا، كأنّما في أذن طفل قبل أن ينام...

هذا الطابع يعود، بين ما يعود إليه، إلى الجمالية المخفية "الماكرة" عند شحادة. صحيح أنه استفاد من بعض وجوه "البلاغة" في تركيب متنه، وجملته، ولعبته، إلّا أنّه تجاوز هشاشة البلاغة التقليديّة وشكليّتها، وبرّانيتها، إلى جمالية أبعد من التوازنات العقلية والمنطقية، وحتى اللغويّة المعهودة كإرثٍ وعادات وأنماط. على أنه رغم الفطرية البرّاقة، والبوح القريب (والمنمنمة وهو كاتب منمنمات بامتياز)، يعرف شاعر "فاسكو" و"السفر" كيف يلجم التدفّق ويروّض المصادفة، ويكتِّل الفيض. فإزميله مرهف وشفيف، يزيل ويحذف، ليُبقي ما يوحي، وما يشير وما يومئ كـ"الجوهرجي"، لينضم بذلك إلى تلك الرهافة اللغوية الحسّاسة التي تميّز الشِّعر اللبناني دون سواه من الشِّعر العربي، من صلاح لبكي إلى إلياس أبي شبكة وأمين نخلة وسعيد عقل وأُنسي الحاج وامتدادا إلى ميشال طراد والرحبانيين اللذين تأثّرا عميقا بشِعر شحادة وخصوصا بمسرحه (شخصياته، لغته، مناخاته).

هذه الجمالية الكثيفة الخبيئة والمصفّاة القائمة أساسا على هاجس الاختزال، هي التي جعلت شحادة يتجنّب كتابه القصيدة الطويلة كما نجد مثلا عند هنري ميشو وبول كلوديل وسان جون برس وبيار إيمانويل. فهو شاعر المقطوعة التي تختزن مدى مفتوحا، وشاعر الجملة ذات النوافذ الكثيرة، وشاعر الالتماعة، واللمحة، والبارقة التي تضيء عالما كاملا، بل هو الصياد مقتنص اللحظة المكتنزة بلا ترهل ولا سَيَلان ولا زوائد. وهنا يلتقي رينه شار الذي، بدوره، لم يكتب مطوّلات إلا إذا اعتبرنا "أوراق هيبنوز" قصيدة واحدة...

كل ذلك يعني أن شحادة يصطفي الجوهري، خارج التزامات اليومي أو الحدثي أو التفصيلي، ولهذا ربما كأنه كتب قصيدة واحدة بلا عنوان سوی عنوان واحد لكل أعماله "أشعار"، ولهذا ربما يكون القول إن شحادة كتب القصيدة الوحيدة. أي إنه ليس شاعر مراحل ولا تفجير مراحل. ولا قفز بين التجارب تماما كبودلير أو فاليري أو مالارميه أو بيار جان جوف. شحادة، اليوم، يبقى كلّه. في وقت تتساقط فيه تجارب كبيرة، وَسَمَت مراحل كاملة، يبقى كلّه، لأنه كتب القصيدة العارية من الالزامات الخارجية، ومن الأيديولوجيا، ومن النظريات.

 يبدو شحادة شاعر "حكايات". يروي دائما بشِعره، ينفتح كصندوق فرجة غريب، لتتدفّق الصُّور ويتدفق معها صوت الرواية أو "الحكواتي" الشّفوي. لهذا، ربما، لم تغادر قصيدة شحادة "الشّفوي" مغادرة نهائية، ولم تلتحق التحاقا تاما بالكتابي

 

بعد 34 عاما من رحيله ها هو لا يزال بيننا، شعريّا ومسرحيّا. ربّما يكون مسرحه أوسع مساحة من قصائده، التي قُدّمت في عشرات البلدان العربيّة والعالميّة، ولا يختلف في شخصيّاته بأمزجتهم وحالاتهم، عن جوهر قصائده، بهذه الفرادة، اللافتة، والأحداث التي تبدو لا زمنيّة من حيث طبائعها، لكنها تعبّر عن رؤيا، هي فانتازيّة، غرائبيّة، تنفتح على عوالم خياليّة، لا يتمكّن القارئ أو المتفرّج إلى التقاط عمقها، بل يُساورها، بما توحي، وما تستوحي من عوالم تتأرجح بين السخرية الهادئة، والغرابة الشعرية. من هنا بالذات، نجد أنّ مسرحه، ذا اللغة المتفرّدة، لا ينفصل عن قصائده، كأنّه أحيانا مصنوع من الكلمات وأخرى من غربة الأمكنة، والحوارات، عبثيّة أكانت أم غير عبثيّة، تبدو مُتوأمة؛ كأن شخصيّاته كقصائده تنفتح على عالم جديد، كثيف على شفافيّة، وشفّاف على جروح الزمن والمصادفات.

font change