رحلة الحج بين ابن بطوطة وحمد الجاسرhttps://www.majalla.com/node/294366/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AC-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%A8%D8%B7%D9%88%D8%B7%D8%A9-%D9%88%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D8%B3%D8%B1
في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 1972 شعر المؤرخ والرحالة والأديب حمد الجاسر بحاجة إلى الراحة والاستجمام، وترك المطالعة والكتابة لفترة من الزمن، فسافر إلى القاهرة، وأمضى فيها قرابة أربعين يوما، وبقي مترددا على مستشفى مصر الجديدة الذي كان يدعى "مركز العلاج التخصصي" يعالج فيه بالتدليك وغيره آلام الظهر. لكن شخصية العالم الباحث الشغوف لم تجد راحتها في هذا الانقطاع، واتضح له أنه لا يستطيع الصبر عن المطالعة. فعقد العزم أن يواصل مشروعه الكبير في دراسة كتب الرحلات المتعلقة بالحج، ولكي يُتم عمله كان عليه أن يحصل على أكبر قدر من الكتب والمخطوطات، فقام برحلات مكوكية بين دول العالم، ومكتبات المدن والعواصم، وأروقة المتاحف والجامعات ومستودعات الكتب، كي يصل إلى أكبر قدر من كتب الأدباء والعلماء والمستشرقين والرحالة الذين وثّقوا ذكريات رحلاتهم لأداء مناسك الحج والعمرة، وزيارتهم للمدينة المنورة. يرى الجاسر أن تلك الكتب هي كنز معرفي ثمين، ففيها "من المعلومات المتنوعة عن تاريخ بلادنا، وجغرافيتها، ومختلف أحوالها ما لا يوجد في غيرها من المؤلفات"، فيمم وجهه ابتداء نحو بلدان المغرب العربي، فأهلها في رأيه تفوّقوا على المشارقة في هذا المجال، حيث أنّ هناك عشرات المؤلفات عن الرحلات لأولئك العلماء لا تزال مخطوطة، ومكتبات المغرب العامة والخاصة تحفل بكثير منها.
زار الجاسر بلاد الجزائر، والمغرب، وذهب إلى جامعة القرويين، وتنقل بين مراكش والرباط، ويمم نحو تونس، ثم توسعت مهام عمله في البحث عن المخطوطات التي تتناول تاريخ الجزيرة العربية وتراثها، فتوجه نحو إسطنبول، حيث يقول عن تلك البلاد، هناك "تراثنا المبعثر في المكتبات التركية"، ثم ذهب بعد ذلك نحو الحواضر الأوروبية، من هولندا ولاهاي وليدن، إلى لندن والمتحف البريطاني، وجنيف، وبرلين، فمكتبة الفاتيكان، وروما، ثم إلى باريس وجامعة السوربون، ومكتبة الاسكوريال بمدريد، وغير ذلك، من أجل البحث عن العلم ونفائس الكتب والآثار، ففي تفاصيلها قصص وأحداث جميلة وطريفة، كما أنها نموذج حي للكفاح والجد والجلد في سبيل العلم، ومصدر لإلهام الباحثين وطلبة العلم.
من الطريف أن علّامة الجزيرة العربية حمد الجاسر قرّر أن يكتب رحلاته هذه في البحث عن كتب الرحلات، متبعا الطريقة الأدبية العتيقة في التراث العربي، فدوّن حكايات رحلته في البحث عن المخطوطات العربية، وكانت أغلب مشاهداته متعلقة بوصف المكتبات والمتاحف والجامعات والمراكز الثقافية حيث الهدف الرئيس من تلك الرحلات، فصدرت في كتاب بعنوان "رحلات حمد الجاسر للبحث عن التراث".
يرى الجاسر أن تلك الكتب هي كنز معرفي ثمين، ففيها "من المعلومات المتنوعة عن تاريخ بلادنا، وجغرافيتها، ومختلف أحوالها ما لا يوجد في غيرها من المؤلفات"
فن قديم
أدب الرحلات فن قديم قدمَ البشرية، في بحثها عن تاريخ الإنسان، وطبائعه، وتطلعها لاكتشاف الشعوب، وثقافات الأمم، وعاداتها، وتقاليدها. فيه إشباع لفضول الإنسان، وحلقة وصل تربط العالم بعضه ببعض، وتقرب المجتمعات، وتساعد على الفهم والتواصل.
كان لهذا الفن حضور كبير في التراث العربي الإسلامي، وقدّم الرحالة المسلمون كتبا في أدب الرحلات تعد اليوم أحد أهم مصادر التراث الإنساني التي تصف تاريخ الشعوب، وحضارات الأمم، وأوصاف المدن والعواصم، فكانت بمثابة وثائق تاريخية نفيسة ساعدت في فهم تاريخ العالم واكتشاف أسراره، فكتب ابن فضلان أقدم وصف لأمم الروس والترك والخزر والصقالبة في رحلته الشهيرة، ووضع البيروني أسس علم الأنثروبولوجيا في كتابه الذي دوّن فيه رحلاته للهند، حيث كان فيه عميقا محللا لطبائع الإنسان الهندي وعاداته وتقاليده في كتاب "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، ثم قدم الرحالة الأندلسي الشهير ابن جبير أوصافا دقيقة لأحوال بلاد العالم الإسلامي، في كتابه "تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار"، ثم جاء بعد ذلك ابن بطوطة في رحلته الشهيرة التي أمضى فيها أكثر من 28 سنة من حياته يتنقل في أجزاء العالم المعروف حينها، حتى قطع ما لا يقل عن 120 ألفا من الكيلومترات، يدوّن ويرصد "غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، ولا غرابة أنه استحق لقب شيخ الرحالين المسلمين على الإطلاق.
نقطة البداية
تجدر الإشارة هنا إلى أن رحلة أداء مناسك الحج، كانت في الغالب هي الحافز الأول الذي يدفع ذلك الرحالة أو المؤرخ والأديب كي يدون رحلاته، ويتوسع في ذلك الفن، حيث يذكر ابن بطوطة في مطلع كتابه عن أول رحلة له، تحت عنوان "نقطة البداية"، فيقول: "كان خروجي من طنجة مسقط رأسي في يوم الخميس الثاني من شهر الله رجب عام 725هـ معتمدا حج بيت الله الحرام، وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، منفردا عن رفيق آنس بصحبته، وراكب أكون في جملته لباعث على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم، فحزمت أمري على هجر الأحباب من الإناث والذكور، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والدي بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وصب ولقيت كما لقيا من الفراق نصيبا وسني يومئذ ثنتان وعشرون سنة".
الأمر نفسه عند ابن جبير، حيث كان مبتدأ رحلته أنه خرج قاصدا للحج، ولذلك يسمى كتابه أيضا "اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك"، حيث ارتحل بصحبة صديقه أحمد بن حسان، قاصدا أداء فريضة الحج، عن طريق البحر، من سبتة إلى صقلية فالإسكندرية، حيث أقام بها مدة، ومال إلى القاهرة ومصر، فتجول بهما، ثم قصد مدينة قوص، ومنها إلى ميناء عيذاب، حيث استقل سفينة أوصلته إلى جدة. وجاء الكتاب حافلا بالمشاهد، وعجائب القصص والتجارب في البلدان والمدن التي مر بها، فدوّن غرائب الوقائع، ووثّق الشؤون والأحوال السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي كانت سائدة في تلك الأزمنة.
قدّم الرحالة المسلمون كتبا في أدب الرحلات تعد اليوم أحد أهم مصادر التراث الإنساني التي تصف تاريخ الشعوب، وحضارات الأمم، وأوصاف المدن والعواصم، فكانت بمثابة وثائق تاريخية نفيسة ساعدت في فهم تاريخ العالم
مدينة عظيمة الآثار
يقول ابن جبير في وصف مناسك الحج: "صعدنا الى منى لمشاهدة المناسك المعظمة بها ولمعاينة منزل اكتري لنا فيها اعدادا لمقام بها أيام التشريق، فألفيناها تملأ النفوس بهجة وانشراحا، مدينة عظيمة الآثار، واسعة الاختطاط، عتيقة الوضع، قد درست الى منازل يسيرة متخذة للنزول تحف بجانبي طريق ممتد الطول. فأول ما يلقى المتوجه اليها عن يساره، وبمقربة منها، مسجد البيعة المباركة، التي كانت أول بيعة في الاسلام، عقدها العباس، رضي الله عنه، للنبي، صلى الله عليه وسلم، على الأنصار، حسب المشهور من ذلك. ثم يفضي منه الى جمرة العقبة، وهي أول منى للمتوجه من مكة، وعن يسار المار إليها، وهي على قارعة الطريق مرتفعة للمتراكم فيها من حصى الجمرات. ولولا آيات الله البينات فيها لكانت كالجبال الرواسي لما يجتمع فيها على تعاقب الدهور وتوالي الأزمنة، لكن لله عز وجل فيها سر كريم من أسراره الخفيات، لا إله سواه".
ويصف ابن بطوطة مناسك الحج منذ اليوم الأول، حيث تبدأ الاستعدادات على قدم وساق، فـ"إذا كان في أول يوم شهر ذي الحجة تضرب الطبول والدبادب في أوقات الصلوات بكرة وعشية إشعارا بالموسم المبارك، ولا تزال كذلك إلى يوم الصعود إلى عرفات. فإذا كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب الخطيب أثر صلاة الظهر خطبة بليغة يعلم الناس فيها مناسكهم ويعلمهم بيوم الوقفة، فإذا كان اليوم الثامن بكر الناس بالصعود إلى منى، وأمراء مصر والشام والعراق وأهل العلم يبيتون تلك الليلة بمنى وتقع المباهاة والمفاخرة بين أهل مصر والشام والعراق في إيقاد الشمع (لأجل الإضاءة) ولكن الفضل في ذلك لأهل الشام دائما، فإذا كان اليوم التاسع رحلوا من منى بعد صلاة الصبح إلى عرفة فيمرون في طريقهم بوادي محسر، وهو الحد ما بين مزدلفة ومنى، ومزدلفة بسيط من الأرض فسيح بين جبلين وحولها مصانع وصهاريج للماء مما بنته زبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور زوجة أمير المؤمنين هارون الرشيد"، وفي عرفة يجتمع الناس بمشعر عرفات وفي وسطه جبل الرحمة، ويذكر ابن بطوطة أنه كانت تعلوه قبة تُنسب إلى أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها. أما أسفل جبل الرحمة فقد كان على يسار المستقبل للكعبة دار عتيقة البناء تُنسب إلى آدم عليه السلام، وعن يسارها الصّخرات التي كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم عندها، وحول ذلك صهاريج وجباب للماء، وبمقربة منه الموضع الذي يقفُ فيه الإمام ويخطب ويجمع بين الظهر والعصر". ويصف ابن بطوطة مشهد نفرة الحجاج نحو مزدلفة، "فدفع الناس بالنفر دفعة ترتجُّ لها الأرض وترجف الجبال فيا له من موقف كريم، ومشهد عظيم، ترجو النفوس حسن عقباه، وتطمح الآمال إلى نفحات رُحماه".
رحلة الحج عند الأدباء المعاصرين
في العصر الحديث اعتنى كثير من الأدباء والمفكرين بتدوين رحلتهم إلى الحج، سواء في مقالاتهم أو كتبهم، وقدموا معلومات مهمة عن الأحوال الدينية والاجتماعية، والاقتصادية، والظروف السياسية، والعادات والتقاليد في البلاد العربية، كما أنّ هذه الرحلات تحوي معلومات دقيقة ومهمة عن تاريخ الحجاز، وسيرة أمرائه، وأوصاف الحرم، وتطوّر بنائه، وطرق الحجاج ومواقيتهم.
من أبرز الأدباء الذين كتبوا عن رحلتهم للحج، أحمد حسن الزيات، الذي دوّن رحلته في مقال بـ"مجلة الرسالة" بعنوان "في أرض الحجاز"، وفيها استرسل بفيض من العاطفة الجياشة وحرارة الموقف، فقال: "إن في كل بقعة من بقاع الحجاز أثرا للفداء ورمزا للبطولة، فالحج إليها إيحاء بالعزة، وحفز إلى السمو، وحث على التحرر، وتذكير بالوحدة، هنا غار حراء مهبط الوحي، وهنا دار الأرقم رمز التضحية، وهنا غار ثور منشأ المجد، وهذا هو البيت الذي احتبى بفنائه أبو بكر وعمر وعلي وعمرو وسعد وخالد، والغطاريف من بني هاشم وبني أمية. وتلك هي البطحاء التي درج على رمالها قواد العالم وهداة الخليقة!".
وقدم محمد حسين هيكل كتابه "في منزل الوحي"، وكتب الأديب إبراهيم المازني عن حجته عام 1930 "رحلة الحجاز"، في كتاب نفيس مليء بالمعلومات والخواطر والمشاهدات الطريفة. كذلك رحلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب "أضواء البيان"، وعنوانها "رحلة الحج إلى بيت الله الحرام"، الذي يمثل مرجعا مهما في الجوانب التاريخية والآثار والجغرافيا. ومن تلك الرحلات أيضا "مرآة الحرمين" من تأليف إبراهيم رفعت، وكان أميرا على موكب الحج المصري، وحين أتم أمير البيان شكيب أرسلان رحلته للحج عام 1929 كتب ذكرياته عنها في كتاب "الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف" وقدمه الى جلالة الملك عبد العزيز، وفي مقدمته يقول: "ولما تسنى إكماله (أي الكتاب)، وبلغ الإبدار هلاله، رأيت أن أتوجه باسم جلالة الملك الهمام، الذي هو غرة في جبين الأيام، عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك الحجاز ونجد وملحقاتها، تذكارا لجميل الأمن الذي أمد على هذه البلدان سرادقه، وعرفانا لقدر العدل الذي وطد فيه دعائمه، وناط بالإجراء مواثقه، وابتهاجا بالملك العربي الصميم الذي صان للعروبة حقها وللإسلام حقائقه، أدام الله تأييده، وأطلع في بروج الإقبال سعوده، وخلد شمسه الشارقة، ووفقه للاتفاق مع سائر ملوك العرب وأمرائها، والعمل مع رجالاتها العاملين لرقيها وعلائها".
إن أدب الرحلات مدين للحج بالكثير، فرحلة المناسك والشعائر تشعل قرائح الأدباء والعلماء، وتحرض أقلامهم نحو الكتابة الجياشة، وتوثيق المشاهد الدقيقة، والذكريات الطريفة واللطيفة، وأغلب كتب الرحلات في تراثنا تبدأ شرارتها الأولى من رحلة الحج، كما عند ابن جبير وابن بطوطة، ثم تتسع مساحة الكتابة فتشمل تدوينا لقصص مدن العالم، وأحوال الأمم والشعوب، فأصبحت مصدرا تاريخيا دقيقا، وسجلا من شاهد عيان، تقوم على الملاحظة الميدانية، والوصف والتقصي والتأمل والمعاينة. إنها كنز عظيم من كنوز التراث العربي والإنساني.