اللايت هو المنتوج الذي يكون على استعداد كامل لأن يتخفف من جميع مقوماته من غير أن يتخلى عن اسمه. فقد يضحّي بلونه وطعمه، بل حتى بمفعوله ونفعه، إلا أنه يظل متشبثا بحمل الاسم مع شيء من الخفة.
تفيد هذه الصفة، من بين ما تفيده، أن المنتوج يكشف عن ابتعاده عن "حقيقته"، يكشف عن "خدعته" في واضحة النهار، فهو لا يحتاج إلى آليات السوق ليتقنع ويحجب تشيُّوءه وخدعته، إنه مستغن عن آلية "فتيشية السلعة" التي يتحدث عنها الماركسيون، وربما لسبب أساس، وهو أنه لا ينظر إلى إخفاء حقيقته كخدعة، أو لنقل إنه يعتبرها خدعة طيّبة، خدعة حسنة النية، خدعة بريئة تقدم نفسها، بدءا، على أنها كذبة صادقة.
صفة اللايت هذه، وكما نعلم، أصبحت تصدق على منتوجات متعددة. وهي في طريقها إلى أن تخلق، إلى جانب عالمنا، عالما آخر هو "عالم لايت". يتجلى ذلك أساسا في منتوجاتنا حيث نلحظ تحت الأضواء المشعة لكل سوبرماركت أجنحة موازية تعرض فيها منتوجات لايت مقابل المنتوجات "الوازنة". فما إن يلمس المنتوج بعض العوائق في طريقه إلى المستهلك، سواء أكانت صحية أم دينية أم اجتماعية، حتى يتأقلم مع الوضع، ويبحث عن صورة مقنّعة، ليتخفف من "طبيعته"، ويعدّل من اسمه، ويثبت "براءته"، فيظهر تحت اسم مخفّف. هذا شأن القهوة من غير كافيين، والسجائر من غير نيكوتين، والمربيات من غير سكر، والجعة من غير كحول، و"الحليب من دون حليب"... لا يهمّ المستهلك، كيميائيا، ما إذا كان تركيب هذه المادة الجديدة هو نفسه تركيب الأخرى. ما يعنيه كمستهلك أنه يشرب، مثل أيّ مستهلك آخر، منتوجا اسمه "قهوة". صحيح أنها قهوة "مخفّفة" لكنها تحمل الاسم نفسه. فلا تهمّ مكوّنات الأشياء و"طبيعتها"، وإنما أسماؤها.
ما إن يلمس المنتوج بعض العوائق في طريقه إلى المستهلك، سواء أكانت صحية أم دينية أم اجتماعية، حتى يتأقلم مع الوضع، ويبحث عن صورة مقنّعة، ليتخفف من "طبيعته"، ويعدّل من اسمه، ويثبت "براءته"، فيظهر تحت اسم مخفّف
إلا أن الأمر لا يقتصر على هذه المنتوجات "المادية"، وإنما يمتد إلى منتوجات أخرى أصبح يعج بها عصرنا، وأعني منتوجات الثقافة، وهي منتوجات ليس لها، هي أيضا، من الثقافي إلا الاسم. ولكن، قبل أن نعرض لهذه المنتوجات، لا بأس أن نتساءل: ما الذي يدفع المستهلك إلى أن يقتني السلع اللايت، على الرغم من وعيه بعدم صدقها، خصوصا أنها تكلّفه، في أغلب الأحيان، ثمنا يفوق بكثير ثمن السلع "الوازنة"؟ الجواب المتداول أن اقتناء تلك المنتوجات غالبا ما يكون بدافع مبرَّر، ديني أو صحيّ. وعلى الرغم من أن هذا الجواب يبدو مقنعا، في بعض الحالات، إلاّ أنه لا يصدق عليها جميعها: فأيّ منفعة صحّية يا ترى في احتساء الكوكا-لايت على سبيل المثل؟
الظاهر إذن، أن إقبال المستهلك على اللايت لا يجد تفسيره في السلعة ذاتها، وإنما في مفعولها، أي في كونها تحقّق له شعورا بأنه ليس محروما، ما دام المجتمع الاستهلاكي، بما يتوفر عليه من وسائل ترويج قادرة على أن تخلق الأسماء وتنتج الأذواق وتصنع الآراء وتخلق النجوم، فإنه يرعى "رغبات" المستهلك، فيوفر الوسائل جميعها لإشباعها. من حقه أن يستهلك جميع الأسماء مثل الجميع، وينبغي تمكينه من أن يحتسي جميع أنواع الصودا، بل ألوان الجعات والمربيات والسجائر. فكأنّ اللايت يحقق نوعا من "العدالة الاستهلاكية" ويجعل الجميع متساوين، ربما ليس أمام جميع المنتوجات، ولكن أمام أسمائها جميعها، وهذا هو المهمّ.
كأنّ اللايت يحقق نوعا من "العدالة الاستهلاكية" ويجعل الجميع متساوين، ربما ليس أمام جميع المنتوجات، ولكن أمام أسمائها جميعها، وهذا هو المهمّ
لعل هذا بالضبط ما يشكل الخاصية الغالبة للمنتوج الثقافي في عصر "الفرجة". فبما أن هذا العصر هو العصر الذي تسوده "علاقات اجتماعية تتوسطها الصور" وتعاش فيه الأشياء مبتعدة عن ذاتها، مفوضة بدائلها وصورا عنها، بما أنه العصر الذي تتحوّل فيه كلّ حياة إنسانية إلى مظهر، وتغدو "محط رؤية"، وتُعطى داخل "مشهد" Spectacle، بما أنه العالم الذي يُستبدل فيه المحسوس بمقتطف من الصور توجد "فوقه" Sur-réel، صور سوريالية ليست مجرد ديكور يزين الحياة الاجتماعية، وإنما هي ما يجعل تلك الحياة ديكورا يقدم نفسه على أنه هو المحسوس بلا منازع، فإنّ المسمّيات فيه يستعاض عنها بأسمائها.
هكذا يصدق على المنتوج الثقافي ما يجري على نظيره المادي، فهو أيضا لا يخاطب أفرادا لهم رغبات يبغون إشباعها، وحاجيات معنوية يودون تلبيتها، وإنما يتوجه نحو "الجماهير" لملء أوقات فراغها. ولا يهمّه، هو أيضا، صيانة "الصحة الثقافية"، وغرس قيم متجدّدة تتناقل عبر الأجيال، وإنّما رواج منتوجات لايت، وذيوع "ما يعمل كثقافي"، وخلق موضات يمكن أن يصدق عليها نعت "ثقافية"، وتكريس أسماء ونجوم تحقّق للجميع وهم المعرفة، ووهم التفكير، ووهم الإبداع، فتشبع السوق الثقافية، وتغذي المستهلك، وتقرّبه من صور المثقفين والكتاب والنجوم، وتوفّر له المنتوجات جميعها، وتجعلها "في متناوله وبالقرب منه"، حتى وإن اكتفت بصورها وأسمائها.