عن زكريا تامر... الكاتب الذي رأىhttps://www.majalla.com/node/294276/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B9%D9%86-%D8%B2%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%AA%D8%A7%D9%85%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D8%AA%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D8%B1%D8%A3%D9%89
طرطوس/ سوريا: مع ولادة زكريا تامر خُلقت التراجيديا الناعمة، والحيلة على الشعر الذي أُخِذ للسرد خطفا، وحينما أصبح الشعر سردا افتقد قليلا من نغمه لا أكثر، ثم كانت التراجيديا غوصا في كل شخصية تُكتب، إلى الحد الذي لا تنتهي فيه قصة واحدة، إلا ويكون زكريا تامر حيا فيها، إلى الحين الذي تنتهي فيه القصة على هروبه منها وترك المصائر مفتوحة. إن نجاة كل شخصية هو أمر متروك للقارئ وليس له، رغم أنه عرّض ذاته طوال الوقت للحفر في كل شخصية خلقها. إنها تراجيديا الغوص في الفرد لا في حدثه العام فقط. لقد عرفنا عنه أن لكل قصة وشخصية يكتبها مسيرة طويلة رفقة قدميه، يأخذ شخصياته في رحلة سير، وكل قصة تُعاد وتُكتب نحو ثلاثين مرة قبل النشر. هذا ما عرفنا من أحاديث الناس عنه وأحاديث سرّها للمقربين منه.
تاريخ خاص
لزكريّا تاريخ خاص جدا، ليس أدبيا فقط، أي في الوصول للمكتوب والمنتوج الأدبي، بل حتى على مستوى تاريخه الشخصي، أو بلغة أدق تاريخ التجربة المُعاشة، والتي اشتملت على أعمال كثيرة يدويّة وحرفيّة قبل احترافه للكتابة، ما جعل استعارته الأدبية أكثر تطوّرا وصلة بمعايير تجريبية وخاصة. النصوص الأولى كانت بعد رحلة مباشرة للكاتب في اكتشاف الأشياء واستعارتها الخاصّة أيضا، فلكل من الصانع والأديب بُعدٌ حيوي من التشبيه والاكتشاف. مارس زكريّا ما بدا كافيا لأن تتعب يداه، وهو يتعلّم التورية والتشبيه والتحويل والإخفاء والتذويب والمحاكاة للأشكال الماديّة، وهو يحفّها ويوازنها بيديه. من علاقته الماديّة البحتة بالحديد عرف تماما ماهية الشيء، وكيف يُدرك معالمه وخفاياه، وكيف يجعله مثاليّا حتّى، بالأحرى عرف تماما من طُرق المادة كيف يُمكن تحويلها عبدة للبشر، تلوى وتُحرق وتُدمر وتيأس وهي تقاوم نارا أو مطرقة وسندانا لكنها في نهاية المطاف تظل في نطاق سيطرته والتشكيل الذي يُريده. ثم انتقلت معايشته الشخصية إلى تجربة أكثر ذهنية، الدور الذي حاول فيه التواجد في ما يكون يوميا ومتفاعلا فيه والعمل الحزبي (الحزب الشيوعي السوري)، فأُخرج وخرج منه سريعا في وقتٍ واحد، لقد عرف سريعا أن الأيديولوجيا عمياء، وتحوله إلى عبد لدى منظرين بائسين ومهووسي سلطة. ومن مثله يعرف كيف يتحول البشر أو الأشياء إلى عبيد. كانت حُريته وتمرده على التسلط خروجا من كل شيء نحو فسحة التعبير، المُعاش لا يؤدي إلا إلى البحث عن الحرية.
عرف زكريا تامر سريعا أن الأيديولوجيا عمياء، وتحوله إلى عبد لدى منظّرين بائسين ومهووسي سلطة. ومن مثله يعرف كيف يتحول البشر أو الأشياء إلى عبيد. كانت حُريته وتمرّده على التسلط خروجا من كل شيء نحو فسحة التعبير
في بيروت
قبل 1960 وصلت نصوصه إلى يوسف الخال، وإلى بيروت تحديدا، زكريا مثل أغلب المبدعين السوريين، الذين كُتب عليهم الخروج من دمشق ليتخلصوا من ناصريتها وبعثها وعسكرييها عموما، لكن العالق من دمشق على أيديهم سيظهرُ بعيدا عنها، أدونيس، الماغوط، زكريا تامر وغيرهم. الولادة المتبنّاة عن طريق يوسف الخال (1916-1987) ومجلّة شعر حملت خصوصية هائلة. لقد التقط يوسف الخال كيف يكون للواقع سردا يقترب من الشعر ولا يكون شعرا، وكيف تكون تجربة الكتابةالإبداعية لغة استبطانية نفسية لا مثيل لها، والقصة بطريقة زكريا هي الطريقة الوحيدة لعرضها، كبناء جدّي لنوعية كتابية نادرة. وقد تكون رحلة لبنان هي بداية الرحيل من سوريا المستحيلة في عيني زكريا تامر.
كانت دمشق حفرا للذاكرة، حفرا عالقا ببداية الشخصيات التي توقفت أحلامها ورؤاها. دمشق التي بدأت تموت في ظلمتها ولا مفهومها، أمّا لبنان فكان لحظة التأمّل البعيدة، الزمكانيّة التي جعلته محطّا لكلمته ومحطّا لرؤياه. مثل الكثير من أبناء جيله، أتاح لبنان ويوسف الخال فسحة لنصّ زكريّا أن يظهر، ثم أن يتّكئ النص على فرادته، وأن يتحوّل الحدّاد إلى حافِر. لقد بات للعبيد صوتا ورموزا، على مدار قسوة واكتئاب كان لكل ما يكون من زكريا تامر استبطانه الذي شكل ملمحا للسوريين، الملمح الذي قد يبقى حتى اليوم.
استشراف
لا تنساب احيانا شهرة النصوص أو أهميّتها من تكوّنها ذاته فقط، كصدورها في كتاب، أو نشرها في صحيفة، أي أن طبيعة المكتوب باختلاف أشكاله أو حتى مواضيعه ليست الدالة الوحيدة على أهمّية النص، بل شيء من الحركة النقديّة والدراسات الادبيّة المعمّقة هو ما يلفت النظر الى النصوص ويمنحها أبعادا أعمق وأدلّ، ويضعها ضمن منظومة من التصورات والافتراضات الهائلة التي لم يكشفها النص ذاته بسهولة. قد يحول الكتاب حقيقة النص ويحورها ويتنبأ من خلالها، دون أن يملك الكاتب هوسا في تلك النبوءة، ومن يستطيع أن يعرف كيف يستطيع كتاب صدر منذ حوالي ستين سنة أن يعرف المآل السوري إلى هذا الحد، إلى متى يُتيح الزمان لكاتب أن يُكتشف من جديد وأن تُدرس بناهُ القصصية بكل هذا القدر.
من هنا يمكن فهم كثرة اﻷبحاث النقدية التي تُكتب عن زكريا تامر حتى اليوم، وميل النقاد والطلبة الجامعيون إلى اكتشافه والحفر في نصوصه، وحتى محاولة فهم الاختفاء الشخصي الذي يحتفي فيه بصمت. فهو لن يجيب على اتصال مفاجئ، ولن يقبل إجراء مقابلة صحافية، إنّه مسؤول عن الصمت، صمته الفردي الخاص والذي أنتجه بمصير شخصيّاته، في غيابهم عن قول كلمة أخيرة، أو في معرفتنا لنهاية حدثٍ أنشأه.
تعرّضت قصص زكريا تامر لوابلٍ من النقد، نقاده كانوا كُتابا وشعراء ومثقّفين غالبا، لم يكن أكثرهم من المختصّين في النقد، اعتمدوا لغة تملك صرامة منطقيّة زائفة، حملت شعار الدفاع عن عناصر القصّة التقليديّة، وشعار السؤال الأيديولوجي أحيانا.
ومع توالي كتبه القصصية بعد انتقاله إلى الخارج وصولا لفترات يغيب فيها زكريا تاركا ثقل ظله على الجميع، من الكتاب حتى النقاد وصولا للقارئ العادي. يُشاع كثيرا ألا يُكرّس زكريّا كقاصٍّ أحيانا، لأنه لم يكن يوما قابلا للاحتواء داخل حلقة وضوح تخصّ السلطة، وموقفه جذري في أن يكون المقموع دوما شخصه الأول في الكتابة، والعاشق أيضا، وصاحب الرغبة والمتطيّر والمجنون، والحالم، والراغب والمنغمس في شهوته. والآخر الوحش الذي يسكننا.
من هنا يمكن فهم كثرة اﻷبحاث النقدية التي تُكتب عن زكريا تامر حتى اليوم، وميل النقاد والطلبة الجامعيون إلى اكتشافه والحفر في نصوصه، وحتى محاولة فهم الاختفاء الشخصي الذي يحتفي فيه بصمت
رحلة مؤلمة
وصولا إلى القلم والنشر كانت الرحلة جريئة وشاقّة ومؤلمة، في استنطاق الاستعارة والحفر. وظيفة الاستعارة -حسب بول ريكور (1913-2005)- الإرشاد، وذلك من خلال الربط المفاجئ بين عناصر لم يسبق لها أن اجتمعت. من هنا وللخلف ستّين عاما رسمت نصوص زكريّا ما لا يُفهم، النصوص التي لم يفهمها سريعا معاصروه، ، لأنّها جمعت ما لم يكن قد اجتمع قبله؛ من حدّة في الكثافة والإلحاح على الفعل والتدمير قبل الوصف لكل نص يكتبه زكريا ألمه وبُعده ومأساته وإرشاده القاسي لما يبدو مُخيفا. حدة التراجيديا كانت في دراما عائلية، هذا المجتمع الذي ظهر منذ الستينات على مآل الهاوية، بدءا من الفرد الذي إما يلازم البيت أو يهرب منه، كانت الشخصية القصصية تحتكم في تحولاتها إلى اختناقات الرغبة، الأم، الأب، ثم الحي، ثم حدود الرغبة في، الجسد، الذهب الآتي من شيخ، والذهب الآتٍي من جسد، والخمارة، والشارع، والعنف تحديدا الذي سيبحث عنه السوريون تِباعا في أعوامهم التي خلت، العنف الذي أُخرج من العتمة في القصة، وكان الشارع ينتظره بفارغ الصبر. عبر ثقافته الخاصة وتجربته المعاشة، عرف زكريا تماما أن الفرد بنية سيكولوجية، تحاول صنع فرادتها وتطويراتها لنفسها، وحينما كان المجتمع يعود إلى الخلف في كل شيء، أمسك دمار الشخصية والفرد والعائلة ومنذ الستينات تجرأ على تصوير هذا الفرد، المتلاشي والممسوخ.
"أبي وأمي وكثيرون من الناس الذين أعرفهم لا يوافقون على هذا الرأي وينصحونني ببلاهة قائلين: احن رأسك اذا أردت أن تعيش سعيدا فالرأس المرفوع يشقي حامله"(كتاب صهيل الجواد الأبيض، قصة الليل في المدينة).
حتى الأشياء تملك آلهتها التي تستنطق البشر وتركت ذاكرتها على يدي زكريا، كل ما يبدو حديثا يملك النصل والمقتل، لقد توقفت المدينة والبشر، ونمت الأشياء وهي ترفض بشرها، للساعة نصل، وللصخر العماء، وكل الأشياء في مدنٍ بدأت تذوي بالقمع باتت ثقلا عليها.
"الساعةُ مصلوبةٌ على جدار المقهى، عقرباها مِعولان سيحطّمان قرص الشمس الصفراء. ...عقربا الساعة يتمطّيان بضجر...أنا تمثالٌ من صلْدٍ أملَس، مغروسٌ وسطَ ضوضاء مخبولة.. عقربا الساعة يحفرانِ قبرا للنهار...الساعة الشاحبة تدنو كسكّين ناعمة تخترق لحمي على مهلط (كتاب صهيل الجواد الأبيض، قصة القبو).
حمل زكريا عبء الشاعر، الجملة الدرامية نضجت ضمن اللغة السردية، ولم تصبه مأساة السرد في منتصف القرن العشرين بالتحيّز لأيديولوجيا تجعل الواقع مكشوفا ومُصوّرا بطريقة سطحيّة، أو تجعل القصّة رافعة لأوهامٍ لا نجد لها مثلا اليوم أيّ دلالة أو فنيّة يمكن الرجاء منها. الحدث في الأسلوب والصدمة في الإدراك كانتا مهمته الأولى، كأن الكتابة دك في الحديد دون هوان أو تعاطف حتى مع القارئ.
حافز الكتابة
إن موقفا قمعيا ومضادّا للرغبة، هو ما يحفّز زكريّا على الكتابة، طيّ الحديد بصبر علّمه تماما أن المأساة هي قسوةٌ وصلابة، وأن الحيلة الرمزية والاستعاريّة والنثرية هي الطريقة المثلى لقص إنسان السلطة المقموع. في سوريا لا تهدأ أصوات تظهر بين حينٍ وآخر تُلمّح لنزع الخاصيّة القصصيّة من زكريا، وليس السبب تحيّزا أيديولوجيا وسياسيا فحسب، بل بُعد ما في أن يتجنّب الجميع طبعه التمرّدي، ولغته التي تبدو نثرا شعريا لكن دون وزن، هذا في حدّ ذاته كان إشكاليّا.كانت القصص سردا لانهيار المدينة، ونزعة زكريا الخلاقة في أن تكون الأيديولوجيا ليست إلا دلالة على آلية كتابة واضحة وجافة ومنفصلة كُليا عن الواقع.
"اسكت…متى أصبحت تفهم في السياسة؟"
"ليتنا نستطيع أن نحيا دون خبز"
"كل النساء مومسات".
"صمت لحظة ثم قال : ما هي أمنيتك التي تود تحقيقها؟
ماذا أجيب؟ رأسي فراغ أبيض. أحياناً أود أن يتحول الناس كافة إلى كلاب لاتتوقف لحظة عن النباح بصورة مزعجة.
قلت: ليس لدي أمنية.
لا أصدق.. لابد أن يكون لك أمنية ما.
ما لجدوى من تكديس الأمنيات اذا كنت أثق بأني لم أنال واحدة منها؟ ما أقوله لك مستمد من حياتي. ليس هناك ما اشتهى نواله بعد ان ملأ معدتي بالخبز واضاجع امرأة"( كتاب صهيل الجواد الأبيض، الخبز والكآبة).
قال أبو سعيد مستنكرا آسفا 'أنا؟ يقبض على ابني في مظاهرة ضد الحكومة؟ لا نعرفها ولا تعرفنا، وليست جارتنا ولسنا جيرانها'
ولكن باب البيت سرعان ما قرع ثانية، وجاء من يصحح الخبر، فأصغر أولاده لم يعتقل في مظاهرة، بل اعتقل عاريا في غرفة مومس عندما دهم رجال الشرطة في الليل بيوتا سيئة السمعة، فتنهد أبو سعيد بارتياح وسأل عن المومس أهي جميلة أو قبيحة؟
"كانت حياة الآخرين مرآة أشاهد فيها تفاهة حياتي وعقمها وخلوها من أي سعادة حقيقية، فالأصدقاء لا يملون من التحدث عن مستقبلهم وعن مغامراتهم الغرامية بغرور نادر ثم يقولون في النهاية: آه لقد هرمنا في سن مُبكرة"(كتاب تكسير رُكب، نص مُرقم).
"وابتسم أحمد بمرارة. اذن لن يصنع امرأة من ذهب، وسيغادر المستشفى بعد أيام قليلة قويا كالحصان، وسيرجع إلى أزقة مدينته رجلا حزينا بلا حبيبة وبلا عمل، وقد تأتي لحظة جوع ...ميت فجرها، فتجبره على أن يأكل عينيه بشراهة بدلا من الخبر المفقود" (كتاب صهيل الجواد الأبيض، قصة الكنز).
هدم زكريا مخيّلة تقليديّة، خالقا لنصّ فيه الفعل ونتيجته الآتية لا محالة سواء قرر القارئ أم لا، واستعاض عن زخرفة الجمل واﻷماكن والكلمات بنفي الشخصيات للقدر أو القبول فيه، مستبيحا فيه كل عوالم الذل. دون رحلة جمالية تقود الشخصية في أحداث تنتهي، بل الذات وهي مستنطقة ذاتها وقهرها فقط. ودون أن تلتبس خطابي السلطة والمؤسسة الدينية، وهذا بالذات ما بدأ منه زكريّا في الموقف من كل تأسيس لا يمكن تجاوزه، ضِدا لسلطة دينة وسياسية.
حمل زكريا عبء الشاعر، الجملة الدرامية نضجت ضمن اللغة السردية، ولم تصبه مأساة السرد في منتصف القرن العشرين بالتحيّز لأيديولوجيا تجعل الواقع مكشوفا ومُصوّرا بطريقة سطحيّة، أو تجعل القصّة رافعة لأوهامٍ لا نجد لها مثلا اليوم أيّ دلالة أو فنيّة يمكن الرجاء منها
السوداوية
الحدة والمُجرد والمآل في الكتابة أضاف لها وعاء الصمت والاختفاء، أو ندرة ما يودّ قوله شرحا ومشافهة، والاكتفاء في أن يكتب فقط أو يتوقف عن الكتابة. كان الظلام هو دلالة زكريّا في سير النصوص، ومنذ كتابه الأول كانت السوداويّة دليل الحداثة الوحيد في نصّه، إن شيئا مفقودا يبحث عنه النص دوما. الجمال في النصوص لن يكون جمال البشاعة، ولا القدرة على تفتيش الذات والكتابة في أعماقها وصياغتها بطريقة تعبيريّة فقط، بل الكتابة التوتريّة، وهي تملك مآلا متخيلا. الظلمة التي يراها زكريّا عنادا على الحاضر والمستقبل في آن واحد، بنية توتريّة دائمة العناد في استنطاق الحاضر وكشفه بوصفه مآلا لجريمة لا بدّ أن تحصل، أو لحياةٍ ذليلة يعيشها الجميع برفق وانكسار، وفي كل مرّة يكون فيها الفرح خمرا، أو فتاة أو شهوة، على السكين والدم والزفت والحرمان أن تظهر. إن مركب الاستعارة يُتاح في الحلم، ولكن أداته قادمة من الموت، رغم أن تلك الأداة تعيش في المنزل، في كل ممتلكات اليوم السوري كان الموت مصيرا مؤجّلا لكنّه آتٍ دون أدنى شك.
البنية العنيدة في النصوص تجعل الاحتفاء بزكريا مكررا ومقلقا، دون اكتشاف جهة أو مذهب واحد قد بقي في استخداماته الكتابية ثابتا ومحوريا، كل الصراعات في الشخصيات التي يخلقها زكريا تقود إلى مصير واحد، حزنها، تفتيت أحلامها، أو العودة إلى الأحلام التي توقّعت الشخصيّات تحقيقها لكن بجسدٍ ميت. ليس الهدف أبدا إيضاح الحدث، وزكريا يتجنّب وضع النهاية، لكي لا يقع نصٌّ له ضمن ما يُشبه التحليل النفسي، لكن النهاية دوما هي الظلمة، الظلمة ذاتها التي خرجت القصّة منها، الظلمة التي لا تكون في الواقع العياني، بل برمي القصة كلغز وكل رحلتك معه هي إخبار دائم بأنه لن يحلّه؛ لأنه سيكون مكرّرا ويملك بقعة متجدّدة في ركودها، من استبداد السلطة، إلى استبداد المجتمع وتفتته، من الحرمان إلى القمع. لا منتصر عند زكريا تامر سوى الرغبة والحلم اللذين يعودان من موتٍ قد تم، وحينما تنجح العودة تكون الأم الولّادة هي الرافضة الأولى. إن كل ما وجده زكريا في الستينات السورية هو الحال اليوم، كان المصير أقل وضوحا لنا.
"ولطالما تساءلت: لماذا أعيش ما دام ليس هناك ما أعيشه من اجله ولا فائدة مُطلقاً في وجودي.. لماذا لا انتحر؟" (كتاب صهيل الجواد الأبيض، قصة رجل من دمشق" (المسرات الصغيرة).
"ستعرفني أمي حالا من طريقتي في قرع الجرس، وستفاجأ برؤية ولدها الذي مات قبل أعوام. يا لفرحتها. أين قبري؟ إني أضعته. لا فائدة لي في البحث. أواه يا أُمّا تمقت ولدها..أني أضعت قبري فإلى أين ذهب؟" (كتاب صهيل الجواد الأبيض، قصة ابتسم أيها الوجه المُتعب).
"لماذا انتحرت؟ أوه ... السفن .. نها تحترق، أنا خائف. سمرت عيني الهلعتين على سحب الدخان المتصاعدة من الحريق، ثم تركت رأسي يتهدل على صدري بذل وانكسار. ليس لك أية مدينة يا طارق. احترقت السفن" (كتاب صهيل الجواد الأبيض. قصة النهر ميت).
النصوص الآتية من مآلٍ مكتشف ومُضمّر، من رؤية للواقع لا يكون فيها الواقعي إشكاليّا لعتبات على الشخصية تجاوزها. بل تكون القصة دعوة للمأساة على ذات الإنسان وأحلامه التي دمرتها السُلطة. ثم أن تعبيرية زكريا لم تخل من ملمح إيديولوجي، يُلمح اميل زولا (1840 - 1902)، إلى تفسير ماركسي على قدرة الكتابة الفنية على التضاد مع الآراء السياسية الواضحة، وذلك من الطابع الكتابي النقدي والتحرري للنصوص، أي أن الإجابة الأيديولوجية هي السياق التحرري المبحوث عنه لعوالم البشر والشخصيات المكتوب عنها. المرأة ثم الطفل، ثم الجوع لم يظهر كل ذلك بأدب واقعي تقليدي أو حتى ركودي، بل بأدب متخلص من واقعية مصطنعة نحو واقعية ثورية متمردة، الظلمة التي تُجرد والعتبة التي يُكسر فيها التابو داخل البشر لا مواضيعهم وأحداثهم لا تحدياتهم العامة.
المصير
المصير الذي كتبه زكريّا نراه اليوم في الواقع، الإنسان السوري اليوم ليس سوى أشباهٍ لما شاهده زكريا من خلال نزعته الكتابية الأولى، بداية عسف السلطة وانتفاء المجتمع من كتلته، نحو أحلامه التي لن تعدو تتجاوز الرغبة، والتملص من السكين أو المسدس. المآل الذي كُتب في الستينات امتد وكأنه اللعنة، وفي كل مرة سيتم اكتشاف الأدب القصصي السوري يعود هذا المصير خفيا ليدفع الباحث لإعادة استنطاق النص، البُعد النفسي في قصص تامر يدفع الإشكالية دوما، كيف لمجموعات قصصية أن تبقى على سيادة الذائقة، وأن تنثر الإشكاليات في كل مرة؟
"وأحنيتُ رأسي في شارع مقفر، واستولى عليّ خجل ممتزج بخوف عندما بصق في وجهي مخلوق لا أعرفه- رما كان أبله وقال: "اقتلني إن شئت..ألم تغضب؟
قلت: أتحب الموت إلى هذه الدرجة؟
قال: الموت شهي كامرأة ناضجة
قلت: انتحر اذن.
قال: أنا لا أملك ثمن خنجر يميتني. ليتني أملك ثمن خنجر.
فأعطيته نقودا تكفي لتحقيق أمنيته، ثم سالته بينما كنت أفكر في صبية نضرة كسنبلة خضراء، انتحرت خلسة ذات ليلة: هل ستنتحر الآن؟" (كتاب صهيل الجواد الأبيض، قصة الرجل الميت..).
"وتطلعت برعب إلى صرصار أسود يدب على البلاطات البيضاء، وصرخ صديقي: "لا تقتله.. ربما كان إنسانا وحيدا" (كتاب صهيل الجواد الأبيض، قصة النهر الميت).
لم تتوقف القيمة والذائقة عن الاحتكاك مع نصوصه والتكشف في كتابته، ابتداء بـ "صهيل الجواد الأبيض" وحتى اليوم. إن شيئا من فرادة لغته هو ما حوّله لكاتب يتضاد مع الزمن، بالأحرى مع زمن الذائقة وتغيّراتها. الدلالة الأكثر ثباتا وجمالا في منتوج زكريا تامر، أنه شرّع ذائقته الخاصّة، دون أن يُسقط نصّه في دوّامة الزمن.
الطفل
بعيدا عن السيرة المهنية في كبريات المنشورات السورية والعربية، لم يدع زكريا شيئا يفلت من يديه؛ الخلق القصصي عنده حمل منذ البداية ألم الطفل الذي وضعه في قصصه، إن شيئا من المركب التوتري والهوسي جعله يظهر بشكل آخر مع الطفل. أما الاحتفاء فلا يعنيه كثيرا، ولا حتى الاحتفاء الشخصي بما استطاعه وأنتجه. الأكثر احتفاء في مسيرته، أن يكون الأمل جهدا شخصيا أيضا وضرورة مكتوبة، إنجازه الهائل على مستوى أدب الطفل كان ملمحا هامّا، في أن يكون كاتب الإنسان الممزّق هو كاتب توعوي حينما يخصّ أدبه الطفل. في السيرة الغريبة التي يحملها، يُذهل القارئ من خفاءات زكريا في قصص الأطفال، وفي السياق الذي يُنتج فيه كاتب حديث ومهووس أبعادا بشرية وسياقيّة نفسيّة هائلة في الكتابة القصصيّة، كيف يميل قلمه برجاءٍ وهِمّة نحو أدب الطفل. في تصريح يعود لعام 2009 عبّر زكريا تامر عن فرحه لتوقيع جهة سورية معه عقدا من أجل نشر مجموعة قصصية للأطفال، بعد غياب ناهز خمسة وثلاثين عاما دون أن تنشر جهة سورية رسميّة نصّا مكتوبا له. المصير ذاته الذي كتبه متوتّرا وبعنادٍ شديد اكتفى منه، ووجده التسعيني اليوم أمام عينيه في بلد ممزّق، وإنسان حائر دون هويّة لغويّة أو سلوكيّة تجعله مُنتجا لمعنى واضح. أمّا الطفل فلا يستحقّ من استعارة زكريّا سوى التفكّر، أو دفعه لأن يتخيّل على طريقته دون قيد، ودون تلقين سلطوي، أو اجتماعي ديني. الكبار مرضى هم وأوطانهم، أمّا مساحة الطفل -بين عينيه القصّة التي يقرؤها- فما زالت مساحة ممكنة لزكريّا للتحرّر من عناد الحديد وقسوة الواقع.
إنذار من الشمس
تأليف: زكريا تامر، رسوم: أحمد حجازي، نشر: دار الفتى العربي، سلسلة قوس قزح، ١٩٨٢.
— The Beautiful Books Trove خزانة الكتب الجميلة (@khazanet) December 27, 2020
لن تجد كُتب زكريا تامر في أي مكتبة سورية الآن، لم ينشر داخل سوريا، وسارقو حقوق الكتب ممن يطبعونها دون حقوق لا يطبعون كُتبه، ما زالت رحلة أي مثقف سوري إشكالية أمام تجربته، وحتى خفاؤه ما زال مضادا للنسيان، أجيال اليوم لم تعد تشاهد كتبه ضمن خياراتها، السوريون دون معيار لبداية التثقف أو المعرفة الإبداعية، بسطات الكُتب وبعض وسائل التواصل هي التي تدل على الكتاب والكُتاب أيضا. تفانى كاتب المصير مُبكرا لنشاهد ما نحن عليه الآن في أوطانِ المشرق، ولأنه يبدو درسا في الكتابة والقصصية والنثر، لا بد في كل مرة من التورط الصعب في الكتابة عنه.
الخلق القصصي عند تامر حمل منذ البداية ألم الطفل الذي وضعه في قصصه، إن شيئا من المركب التوتري والهوسي جعله يظهر بشكل آخر مع الطفل. أما الاحتفاء فلا يعنيه كثيرا، ولا حتى الاحتفاء الشخصي بما استطاعه وأنتجه
تغريبة
المآل الأكثر وضوحا لنا في تفتت الواقع والإنسان السوري، مضافا إليه تغريبة عن مواجهة الذات، شبه مجتمع وحشي ومُفقر، التحفة التنبؤية للكتاب الأول، هي تجربة اقتصاد في الكتب وفي الأدب، الاقتصادية في المعنى والدلالة لمجتمع مُنهار من الاستبداد والموت والقهر، قد تكون تراجيديا البدء عند زكريا انطباعه عن داخل الإنسان السوري، ولكنه لم يتوقع نهاية شخصياته في الحرب والفقر. إنه مصير كان مكتشفا ووصلنا إليه.
زكريا تامر في بريطانيا منذ زمن بعيد، العودة لحياته وشخصه هي عودة لاستثناء معرفي ووجداني سوري، عُتمته الخاصة ما زالت تحث نحوه باحثين وكُتْابا وقرّاء شغوفين للتراجيديا السورية ومكانها المخلوق، والمخلوق منذ زمن بعيد أيضا. العودة للكتاب الأول هي ما نحن فيه اليوم، ما لم نتحدث عن التجربة المعاشة التي كانت أيضا مثالا لأسطورة سورية تقول دوما: عليك الخروج من البلاد، إنّ مصيرها تراجيدي.