لماذا اهتمّ العالم بغرق "تيتان" أكثر من مأساة قارب المهاجرين؟https://www.majalla.com/node/294271/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A7%D9%87%D8%AA%D9%85%D9%91-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A8%D8%BA%D8%B1%D9%82-%D8%AA%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%86-%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D9%85%D8%A3%D8%B3%D8%A7%D8%A9-%D9%82%D8%A7%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%87%D8%A7%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D9%86%D8%9F
لماذا اهتمّ العالم بغرق "تيتان" أكثر من مأساة قارب المهاجرين؟
تذكار بكارثة تايتانيك الأصلية
AP
مهاجرون من إريتريا وليبيا والسودان يبحرون بقارب خشبي قبل أن انقاذهم من قبل منظمة Open Arms الإسبانية غير الحكومية في البحر الأبيض المتوسط، على بعد حوالي 30 ميلاً شمال ليبيا، 17 يونيو 2023.
لماذا اهتمّ العالم بغرق "تيتان" أكثر من مأساة قارب المهاجرين؟
أتاح تزامنُ وقوع حادثتين مأساويتين، للكثير من المتابعين وجمهور "التواصل الاجتماعي"، خصوصا في العالم العربي، عقد مقارنات حول تباين الاهتمام الإعلامي بانفجار الغواصة "تيتان" في عمق سحيق شمال المحيط الأطلسي، وعلى متنها خمسة أثرياء، وغرق قارب مهاجرين غير شرعيين في البحر المتوسط قبالة شواطئ اليونان، حيث قضى نحو ستمائة مهاجر غير شرعي.
لا يمكن إنكار زخم الاهتمام الإعلامي الذي حظيت به حادثة الغواصة الاستكشافية التابعة لشركة "أوشن غيت"التي كانت في طريقها إلى حطام سفينة تايتانيك الشهيرة التي غرقت في المحيط عام 1912، وغرق فيها، آنذاك، أكثر من 1500 شخص، مقارنة بالتغطية الإعلامية الهامشية لكارثة قارب المهاجرين غير الشرعيين الفارين من دول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وفي محاولة انفعالية بسيطة لتفسير هذا التباين، ذهبت غالبية التعليقات إلى تكرار الشكوى البديهية ذاتها حول "ازدواجية المعايير"، وزيف "الشعارات الإنسانية" التي يرفعها الإعلام الغربي، بل بلغ الاندفاع بالبعض إلى استحضار "نظرية المؤامرة"، الغامضة والفضفاضة، لتحليل هذا الانحياز الإعلامي لضحايا الغواصة، في مقابل خذلان ضحايا القارب.
هنا، يطرح سؤال حول مدى صوابية هذه التعليقات، وهل حقا يمكن اختزال الأمر على هذا النحو الذي يتجاهل الكثير من العناصر والدوافع التي تحرك الآلة الإعلامية العالمية بهذا الاتجاه دون ذاك.
ثمة قاعدة إعلامية كلاسيكية معروفة، تقول "إذا عض كلب رجلا"، فهذا لا يعد خبرا، لأنه حدث عادي ومألوف، أما إذا "عض رجل كلبا" فهذا هو الخبر لأنه ينطوي على الغرابة والفرادة، وهذا المبدأ الإعلامي البسيط، الذي لا زال يدرس في أكاديميات الإعلام، قد يكون المدخل الأنسب لتبرير التفاوت الإعلامي في تغطية الحدثين.
ذهبت غالبية التعليقات إلى تكرار الشكوى البديهية ذاتها حول "ازدواجية المعايير"، وزيف "الشعارات الإنسانية" التي يرفعها الإعلام الغربي، لتحليل هذا الانحياز الإعلامي لضحايا الغواصة، في مقابل خذلان ضحايا القارب
تيتان وتايتانيك
الغواصة "تيتان" كانت في طريقها، كما هو معلوم، نحو حطام سفينة "تايتانيك" الراقدة على عمق نحو أربعة آلاف متر في قاع المحيط، والتي خلدها فيلم أنجزه، العام 1996، المخرج الأميركي المعروف جيمس كاميرون، وكان قد حقق نجاحا جماهيريا واسعا بإيرادات فاقت الملياري دولار، ونقديا بحصوله على 11 جائزة أوسكار.
ويتذكر الجمهور، ومن بينهم بالطبع الأثرياء الخمسة الذين لقوا حتفهم، قصة الحب القصيرة والمرحة التي ربطت بين جاك (ليوناردو دي كابريو) وروز (كيت وينسلت) وكيف انتهت تلك النهاية التراجيدية، بعد مشاهد رومانسية بديعة على متن تلك السفينة المضيئة التي كانت تمخر عباب المحيط في رحلتها الأولى لعبور الأطلسي، فيما يصدح صوت سيلين ديون بأغنية My Heart Will Go On التي ألهبت خيال العشاق، شرقا وغربا، وغدت نشيدا فاتنا عن الوفاء والتضحية. ففي هذا الخبر حنين إلى معاني ذلك الحب الذي لمع كومضة خاطفة ثم انطفأ بغتة، دون أن يخبو في الذاكرة، فاللحظات القليلة التي قضاها جاك وروز معا صنعت أحد أجمل قصص الحب التي عرفتها السينما، وإن لم تكن هذه القصة وقعت بالفعل أو لها أيّ علاقة بحادثة تايتانيك الأصلية.
في قصة الحبّ المتخيلة نجد بصورة غير مباشرة ما يشبه انجذاب جمهور القرن الحادي والعشرين إلى متابعة تفاصيل "غواصة" تيتان ومقارنتها بحادثة غرق قارب المهاجرين. فكأن أولئك المهاجرون هم ذلك الشاب الفقير جاك، المتسلل إلى "تايتانيك" دون "حقّ" التواجد على متنها، والذي يلقى حتفه في نهاية المطاف، في حين تنتمي روز إلى طبقة الأثرياء، مما يجعل مجرد تواجدها رفقة جاك أمرا مستحيلا، فكيف بأن تنشأ بينهما علاقة حب أو أن يكون لهذه العلاقة أيّ أفق واقعي؟ في النهاية تعيش روز لتروي حكايتها وحكاية جاك معا، ولعلّ الشغف بمتابعة مصير "تيتان" وعمليات الإنقاذ واسعة النطاق التي انخرطت بها دول عدة، يشبه تعلق قلوب المشاهدين لمتابعة مصير العاشقين الشابين على متن ذلك الباب الخشبي. وقد بات معلوما الجدل الذي نشأ من ذلك المشهد الشهير، حول ما إذا كان الباب لا يتسع فعلا إلا لروز، دون جاك، وقد خرج جيمس كاميرون أخيرا ليحسم الجدل ويقول إن الباب كان يمكن أن يتسع لجاك وروز معا، لكن الحبكة الدرامية فرضت هذه النهاية.
لعنة تايتانيك
يمكن أن نعزو الاهتمام الإعلامي الضخم بحادثة الغواصة، والذي لم يخبُ قليلا إلا مع اندلاع الأحداث الأخيرة في روسيا مع تمرد قائد مجموعة فاغنر على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى ما أسماه بعضهم بـ"لعنة تايتانيك"، فالموقع الذي انفجرت فيه الغواصة هو ذات الموقع الذي تحطمت فيه السفينة الأسطورية بجبل جليدي قبل أكثر من قرن، فضلا عن حادثة أخرى وقعت في المكان ذاته، حسب ما كشف الممثل و"اليوتيوبر" المكسيكي الشهير آلان ايسترادا الذي كان على متن الغواصة "تيتان" العام الماضي عندما فقد الاتصال معها، لفترة، أثناء رحلتها إلى حطام سفينة تايتانيك، ولحسن الحظ لم يتطور الأمر الى كارثة، لكنه اضفى عنصرا تشويقيا آخر حول سر اضطراب الاتصالات في تلك النقطة، وهو ما حوّل الموضوع الى لغز يثير الفضول، كما هو الحال بالنسبة لمثلث برمودا.
اجتماع هذه العناصر كان سببا رئيسيا في الاهتمام الإعلامي، بمعنى أن الغواصة لو لم تكن في رحلة استكشافية لحطام "تايتانيك" على وجه الخصوص لما حظيت بهذا الاهتمام، فالأمر لم يعد مجرد تغطية إعلامية روتينية، بقدر ما هو متابعة لحدث درامي له أبعاد أسطورية وتاريخية ورمزية، علاوة على عنصر التشويق الذي أحاط بالحادثة، فبعد انقطاع الاتصال انصبّ اهتمام الجمهور على ما سيظهر من مستجدات بشأن الواقعة، وكأنه يتابع فيلما سينمائيا، لكنه كان واقعيا للأسف.
والقائمون على الاعلام يدركون متطلبات الجمهور الفضولي، لذلك اولى اهتماما لواقعة الغواصة اكثر من الاهتمام بقارب المهاجرين، فالخبر الأخير كان واضحا، وقد بات مكررا، وحتى الإعلام التابع لبلدان المهاجرين نفسه لم يركز كثيرا على مأساتهم، بقدر ما اهتم بكارثة الغواصة.
لعلّ الشغف بمتابعة مصير "تيتان" وعمليات الإنقاذ واسعة النطاق التي انخرطت بها دول عدة، يشبه تعلق قلوب المشاهدين بمتابعة مصير العاشقين الشابين جاك وروز على متن ذلك الباب الخشبي في "تايتانيك"
المغامرة
وما جذب الإعلام إلى الغواصة كذلك هو روح المغامرة التي تحلّى بها الأثرياء الخمسة الذين دفعوا ثمن التذكرة الواحدة 250 ألف دولار من أجل رؤية حطام في قاع المياه، فيما يرجّح أن ثمن ركوب قارب المهاجرين لم يتجاوز الألف دولار لكل شخص، وهو ما يعني أن الثراء قد يقتل أحيانا، كما يفعل الفقر دوما!
ولم تعد الزيارات والرحلات التقليدية إلى برج إيفل في باريس أو برج خليفة في دبي أو زيارة متحف في موسكو أو محمية طبيعية في أفريقيا تروي شغف الأثرياء بالاستكشاف وركوب المخاطر. ثمة الآن سياحة من نوع مختلف تتمثل في رحلات إلى الفضاء، وقريبا ربما الى المريخ أو القمر، ورحلات نحو قاع المحيطات، وتسلق القمم الجبلية الوعرة والشاهقة، وزيارات نادرة محفوفة بالمخاطر الى القطبين الشمالي والجنوبي وغيرها من التجارب التي ترفع هرمون الأدرينالين الى أقصاه، ومن ثم تسجل التجربة في السيرة الشخصية، كواقعة نادرة وفريدة تستحق التباهي.
وإذا كان غرق سفينة المهاجرين متوقعا في ظل الحمولة الزائدة، وتجاهل أدنى معايير السلامة والأمان، فإن انفجار الغواصة لم يكن متوقعا، وهو ما أثار تساؤلات الخبراء حول قواعد السلامة في مثل تلك المغامرات، وحول مدى قدرة العلم والتكنولوجيا، مهما بلغ من التطور، على تفادي حالات طارئة.
هذا الجانب أيضا لعب دورا في الاهتمام الاعلامي، فشاهدنا الكثير من التقارير حول المواصفات الفنية والتقنية للغواصة، فضلا عن تقارير بشأن تجاهل بعض التحذيرات السابقة، إذ أشار مستكشف تايتانيك البريطاني ديك بارتون، وفقا لوكالة رويترز، إلى المشكلات التي أثيرت بشأن تصميم وصيانة الغواصة. وقال "الجميع حكيم بعد الحدث، ولكن كما كنا نسمع من قبل، لسوء الحظ كانت هناك العديد من الأمور التي تنذر بالسوء".
المخرج جيمس كاميرون، الذي زار عدة مرات موقع حطام تايتانيك، تحدث من جانبه حول العيوب المحتملة في تصميم الغواصة "تيتان"، قائلا إن "استخدام مادة ألياف الكربون غير مناسب تمامًا لمركبة تتعرض لضغط خارجي"، ولمح إلى أن الحادثة لم تشكل مفاجأة بالنظر الى تجاهل التحذيرات.