الندم، هو جلّ ما حصدته المملكة المتحدة من خروجها من الاتحاد الأوروبي، "بريكست"، قبل سبع سنين. وهذا من شأنه أن يذكّر بالسطور الختامية لخطاب جون أوف غونت الشهير في مسرحية ريتشارد الثاني لشكسبير بما معناه: "إن إنكلترا، التي اعتادت أن تغزو الآخرين، قامت بغزوٍ مُخز لنفسها"!
كل من يراقب ما آلت إليه بريطانيا منذ أكثر من عامين، يستشعر الفوضى الاقتصادية والمالية السائدة. لكن البعض يرى أن الأزمة في البلاد متجذرة حتى منذ ما قبل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؛ ضعفا في الإنتاج، ونقصا في الاستثمار، واستهلاكا مفرطا، وعدم كفاية في الادخار، وغيابا للسياسة الصناعية المتماسكة، ونظاما تعليميا ضعيفا يفشل في إنتاج المهارات اللازمة لمواكبة اقتصاد متنام.
ولم تؤدّ استعادة زمام الأمور في 2021، مع دخول اتفاق التجارة والتعاون بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي حيز التنفيذ، إلى توفير زخم في اتجاه معالجة هذه الإخفاقات، بسبب غياب الرؤية الموحدة والتقلبات السياسية المستمرة مع تبدل أربعة رؤساء للوزراء منذ الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي في 23 يونيو/حزيران 2016. فلم تحقق بريطانيا شيئا يذكر حتى الساعة، سوى إضعاف تجارتها مع الدول المجاورة، وتوقفها عن دفع مساهمتها في موازنة الاتحاد الأوروبي، البالغة 12,6 مليار جنيه إسترليني في عام 2020. وها هي تصارع حزمة جديدة من الأزمات على مستوى التضخم وارتفاع الفوائد وتكاليف المعيشة والاضطرابات في قطاعات النقل والصحة والتعليم، وارتفاع نسبة الفقر وعدم المساواة، وغيرها.
يجد البريطانيون انفسهم غارقين في رفع أسعار الفائدة لوضع حد للتضخم، وفي أزمة متعاظمة على مستوى الرهن العقاري، وارتفاع الايجارات وأسعار الغذاء والسلع، بما ينذر بانكماش قاس وطويل الأجل
وفي وقت لا تزال المملكة المتحدة، مع عدد من الدول الأوروبية، تغرق في ركود لا مفر منه عقب الاغلاق الخانق الذي فرضته جائحة كوفيد-19، وأزمة الطاقة غير المسبوقة التي تفاقمت بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، يجد البريطانيون انفسهم غارقين في رفع أسعار الفائدة في محاولات يائسة لوضع حد للتضخم، وفي أزمة متعاظمة على مستوى الرهن العقاري (Mortgage) وارتفاع الايجارات، بما ينذر بانكماش قاس وطويل الأجل، قد يدفع بالاقتصاد البريطاني إلى أن يصبح أسوأ اقتصاد كبير من حيث الأداء في العالم في 2023، وفقا لصندوق النقد الدولي.
وتشاء دورة التواريخ أن تلعب لعبتها، فقبل يومين، وفي تاريخ استفتاء "بريكست" نفسه، 23 يونيو، ها هي لجنة السياسة النقدية في بنك انكلترا المركزي ترفع الفائدة من 4,5 في المئة إلى 5 في المئة، وهو أعلى مستوى للفائدة منذ 15 عاما، وأعلى معدل رفع لأسعار الفائدة منذ فبراير/شباط المنصرم.
سلبيات متراكمة
فاقم خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، تكاليف وأعباء الشركات البريطانية والشركات الأجنبية التي استخدمت لندن في السابق كقاعدة أوروبية، وأدى انخفاض الجنيه الإسترليني بنحو 10 في المئة بعد استفتاء 2016، وبقاؤه عند المستوى نفسه تقريبا منذ ذلك الحين، إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة والتضخم، والى التضييق على الواردات والصادرات نظرا الى الحواجز التقنية الجديدة وضوابط الحدود التي ألغت المفاعيل الإيجابية للإعفاء من الرسوم الجمركية، وإلى انهاك الاستثمار بسبب حالة "عدم اليقين".
وتقدر "بلومبرغ" تراجع معدل الاستثمار عن متوسط مجموعة السبع، التي تضم إلى بريطانيا، كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة، بنسبة 19 في المئة، أو خسارة 29 مليار جنيه إسترليني وفقا لبنك إنكلترا، وذلك وسط توقعات رسمية لمكتب مسؤولية الموازنة (OBR) الذي يعنى بالاحصاءات الاقتصادية، بأن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي على مدى 15 عاما بنسبة 4 في المئة، الأمر الذي يوازي خسارة 100 مليار جنيه إسترليني (125 مليار دولار) من الناتج المحلي، وفقدان 40 مليار جنيه إسترليني (50 مليار دولار) في الإيرادات العامة.
لا تزال الحكومة البريطانية تعيش حالا من الإنكار على رغم خسارة الأسواق الأوروبية، وإغلاق عشرات المتاجر أبوابها وهجرة مئات آلاف العمال، ومعاناة 88 في المئة من الشركات المحلية الصغيرة، والاضرابات المتتالية في قطاعات النقل والصحة وسكك الحديد والبريد
خسارة الأسواق والإنكار
إذا ما تأملنا تدهور العلاقات التجارية والاستثمارية بين المملكة المتحدة وألمانيا مثلا، صاحبة الاقتصاد الأكبر في الاتحاد الأوروبي، يمكننا فهم ما توصل إليه الاقتصاديون الألمان من وصف الـ"بريكست" بالكارثة الاقتصادية. ففي حين كانت المملكة المتحدة ثالثة أهم سوق للتصدير إلى ألمانيا عام 2016، تراجعت إلى المركز الثامن في 2022. وفقدت أهميتها كشريك تجاري، بحيث تراجعت من المركز الخامس إلى المركز الحادي عشر. كما هاجرت أكثر من 1000 شركة بريطانية إلى ألمانيا منذ عام الاستفتاء.
وبعدما كانت لندن أحد أكبر المراكز المالية في العالم على مدى قرنين من الزمن، ها هم الخبراء الماليون يغادرونها إلى باريس من بين وجهات أخرى في الاتحاد الأوروبي، مع هجرة ما يقدر بسبعة الآف وظيفة مالية.
على الرغم من ذلك، لا تزال الحكومة البريطانية تعيش حالا من الإنكار مع إعلانها خطة للنمو وصفها وزير الخزانة جيريمي هانت بأنها "ضرورية ونشطة وممكنة بفضل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي"، حتى مع إغلاق عشرات المتاجر أبوابها وهجرة مئات آلاف العمال، معظمهم في وظائف مثل النقل والتخزين والضيافة والتجزئة، ومعاناة 88 في المئة من الشركات المحلية، الصغيرة منها خصوصا، من نقص الموظفين بسبب الأجور المنخفضة وارتفاع تكاليف سلسلة التوريد وانخفاض تنافسيتها في السوق الأوروبي والأسواق الخارجية، والاضرابات المتتالية لعمال السكك الحديد والبريد والخدمة الصحية الوطنية.
لم يعن للحكومة تصريح مايكل سوندرز، صانع السياسة السابق في بنك إنكلترا والمستشار الأول في "أوكسفورد إيكونوميكس"، أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو أحد أسباب دخول المملكة المتحدة الآن حقبة من التقشف، معتبرا أنه لولا ذلك، "ما كان هناك حاجة ربما لزيادة الضرائب وخفض الإنفاق". كذلك، لم تلتفت الحكومة إلى تقديرات الباحثين في جامعة لندن للاقتصاد عن انخفاض تصدير مختلف السلع من المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 30 في المئة خلال السنة الأولى من "بريكست"، مرجحين أن يكون ذلك نتيجة لهجرة صغار المصدرين الى أسواق الاتحاد الأوروبي.
كما لم تهتم أيضا لما تمخض عنه استطلاع أجرته غرفة التجارة البريطانية في ديسمبر/كانون الأول الماضي لأكثر من ألف شركة، حيث أقر 77 في المئة من هذه الشركات بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يساعدهم على تنمية أعمالهم، فيما يجد أكثر من نصفهم صعوبة في التكيف مع القواعد الجديدة لتجارة السلع.
كل ذلك يعني شيئا واحدا فقط: فرص ضائعة في شتى المجالات والقطاعات كانت لتغني الحكومة عن الاتجاه نحو التقشف وارتفاع الاسعار، وتقليص حاجتها الى الاقتراض في مقابل رفع الضرائب لتمويل خطط الإنفاق، بل كانت لتوفر موازنات إضافية لقطاعات حيوية. فبدلا من السعي إلى حصر النفقات من أجل تمويل الزيادة في أجور موظفي الرعاية الصحية مثلا، كان من الممكن أن ترفع الحكومة إنفاق "خدمة الصحة الوطنية" (NHS) والرعاية الاجتماعية من نحو 184 مليار جنيه إسترليني إلى 327 مليار جنيه إسترليني سنويا.
يكابد البريطانيون والمقيمون الأمرين من تضخم بلغ 8,7 %، وارتفاع للفائدة بلغ 5 %، وارتفاع صاروخي لأسعار المواد الغذائية والسلع سجل 19,7%، وأوضاع خطيرة في الرهونات العقارية بعد ارتفاع تكاليف الاقتراض 13 مرة على التوالي
البريطانيون والمقيمون المساكين
يقع العبء الأكبر، على كاهل الأسر في بريطانيا، خصوصا ذوي الدخل المنخفض، مع ارتفاع فاتورة الغذاء بأسرع معدل لها منذ 45 عاما، حيث يرتقب أن ينخفض متوسط دخل الأسر البريطانية بنسبة 6 في المئة إضافية خلال السنتين المقبلتين، أي ان البريطانيين سينزلقون إلى مستوى معيشة أقل مما كان عليه قبل جائحة كوفيد-19، وهو أسوأ أداء لأي اقتصاد كبير!
وفي وقت يسعى البنك المركزي إلى مكافحة التضخم الذي بلغ 8,7 في المئة في مايو/أيار الماضي، عبر مواصلة رفع الفائدة، (تبعا للفيديرالي الأميركي) بهدف خفض الإنفاق الاستهلاكي، وتاليا الأسعار، يستمر الارتفاع الصاروخي لأسعار المواد الغذائية والسلع بنسبة 19,7 في المئة، ويعاني المقترضون الأمرين لتسديد اقساط منازلهم مع الرفع "غير الرحيم" المتواصل للفوائد، واحتمال خسارة استثماراتهم ومنازلهم، ولا سيما أصحاب الرهونات العقارية الطويلة الأجل، لما يكبدهم ذلك من أكلاف إضافية تقضم مداخيلهم، بعد ارتفاع تكاليف الاقتراض 13 مرة على التوالي، ما سيعمق أزمة الرهن العقاري.
ولا عجب، والحال هذه، أن رفض وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي مقترحات بعض الاقتصاديين بأن الطريق الوحيد لخفض التضخم يكون بأنه "يتعين علينا أن ندخل عمداً في حالة من الركود"، مشيرا الى الحاجة الماسة لنمو الاقتصاد، فيما "رفع معدلات الفائدة لا يساعد في ذلك".
ولا عجب أيضا، أن يكون أكثر من 50 في المئة من البريطانيين الذين استطلعت "يو غوف" آراءهم في مارس/آذار الماضي، يؤمنون بأن المملكة المتحدة أخطأت في مغادرة الاتحاد الأوروبي، ونحو نصفهم يعتقد أن الـ"بريكست" جعل حياتهم اليومية أسوأ، بحسب استطلاع "إيبسوس" في يناير/كانون الثاني الماضي.
وفي استطلاع آخر أجرته "دلتا بول" ونشره معهد طوني بلير، يعتقد 80 في المئة من الناخبين البريطانيين أن على المملكة المتحدة تعزيز علاقاتها مع الاتحاد الاوروبي، فيما ينادي 43 في المئة بأن تنضم البلاد مرة أخرى الى الاتحاد الاوروبي، و13 في المئة يفضلون العودة الى "السوق الأوروبية الموحدة" فقط.
اليوم ومع آلام رفع الفوائد، إذ تعلو الأصوات مجددا من غالبية الناخبين لإعادة توثيق العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، بعد فشل "بريكست" في تحقيق الآمال التي كانت معقودة عليه، هل حان الوقت لاعتراف الحكومة بآلام "بريكست"، أم ستطول الضائقة الاقتصادية الراهنة وتشتد مع مرور الوقت لتتحول الى أزمة مزمنة يصعب الخروج منها؟