زمن الكتابة هلامي، غامض وملتبس، لا يقاس بالتقويم الغريغوري والفيزيائي عموما، بل يقاس بتقويمه الداخليّ المبهم، في النهاية لا يوجد تقويم ثابتُ الإحداثيات إطلاقا.
عندما نشرع في التفكير بكتابة رواية، عندما تتملّكنا الرغبة اللاسعة في إنجاز عمل روائي، فما يتفتّق في سديم البدايات محض فكرةٍ بمثابة شرارة، يمكن أن تكون صورةً تبرق وتتلاشى، تتجلى وتختفي، يمكن أن تكون حكاية مكثّفة تنتاب المخيلة وتنتصب كرةً صغيرة جدّا آخذة مع مرور الوقت في التدحرج من هضبة المخيلة تلو الأخرى، لتتضخم كلما تدحرجت وتتفاقم مثل كرة الثّلج، يمكن أن تكون قطعة حارقة من الذاكرة، تصرّ على أن تلمع كحصاة بيضاء في قعر النّهر أو كشظيّة حادةّ منفصلة عن مرآة مهشّمة... وقِسْ على ذلك من تعدّد أشكال وأصناف الإيحاءات التي تستند إليها مخططات ومشاريع الروايات قبل أن يتحقّق إنجازها الفعلي.
في كل الأحوالِ آنفة التّلميح، يبدأ إنجاز العمل الروائيّ مسبقا في مفكرة الروائيّ، مُستعرا في ذهنه، مُكَوبِسًا في مخيلته، متقلبا في رؤاه، قبل أن يشرع في كتابته بالفعل لحظة التحرير والتدوين والركض الماراثونيّ في شعابه ما أن ينخرط في تسويده على الورق أو الحاسوب... كيف نقيس إذن الزمن الذي استغرقه التفكير في الرواية قبل الإنجاز؟ لا يمكن إقصاء هذا المخاض المتماوج، الملتهب، لتَشَكُّل فكرة الرواية ونزق تكوّنها المحتدم، لا يمكن الاستغناء عن هذه العملية من التخطيط القبلي لابتكارها، إذ ما يسبق تحريرها ضروريّ ملء الخطورة، ولا يمكن فصله عن زمن إبداع الرواية في المجملِ.
هناك من يستصعب قياس زمن كتابة روايته، إذ لا يستسيغ أن يحكم احتساب توقيتها إلى الساعة واليوم والشهر والسنة، بالتقويم المتعارف عليه، بل يسندها إلى زمنها الداخليّ، الغامض، المجهول، والضبابيّ
لندع زمن التخطيط المسبق لإنجاز الرواية جانبا، وما يحتمله من حالات وجودية شاقة، يتأرّق فيها الروائي وينصلب بمسامير فكرته وتخييله المُزمنيْن، وسواء وثّق المنفلت من إشراقاته في دفتر، ورسم في مذكرته الروائية ما قد يعينه من أدوات ومفاتيح ودلائل وخرائط لعمله السردي الوشيك، أو اكتفى بأن يقلّب شرائح روايته اللامكتوبة بعد، على مشواة تخييله، فهذه البروق التي تسبق عاصفة الكتابة لاذعة وصاعقة، بقدر ما هي مغوية وممتعة.
أما اللحظة التي يبدأ فيها العمل في الخروج من غسق الكمون إلى نهار التحقّق، ما أن يخطّ العبارة الأولى الشبيهة برأس الخيط، ويلفي نفسه بقدرة قادر في غمرة كتابة الرواية فعلا، فمنذئذ يشرع طور ثان من زمن الإنجاز الروائي في الوجود الفعلي، ويمكن حساب الوقت الذي يستغرقه منذ ذلك الحين حتى العبارة الأخيرة من المسودّة.
طورٌ ثالثٌ يعقب كلّ ما سبق، وهو عملية الحذف والتنقيح والتدقيق، وهي عملية أكثر شقاء في إنجاز اللعبة الروائية، بل أحيانا عملية الحذف هذه تكون أهم من الكتابة ذاتها.
هناك إذن من الكتاب من يقيس زمن كتابة الرواية فيزيقيّا منذ أن خطّ أوّل عبارة إلى أن ينتهي إلى آخر عبارة في المسودّة، وهناك من يقيس زمن كتابة الرواية منذ أن انتابته فكرة العمل، قبل الشروع في الإنجاز، ويحسب توقيتها عند منتهى آخر كلمة في طرس الرواية، وهناك من يستصعب قياس زمن كتابة روايته، إذ لا يستسيغ أن يحكم احتساب توقيتها إلى الساعة واليوم والشهر والسنة، بالتقويم المتعارف عليه، بل يسندها إلى زمنها الداخليّ، الغامض، المجهول، والضبابيّ، سواء كان بحجم زمن الأبدية نفسها أو لامتناهيا.
فيما الخلاف القائم بين بعض كتابها، حين يقدّرون وفق تجاربهم ورؤاهم الزمن الذي يجب أن تستغرقه كتابتها، بين من يفترض ألا يقلّ عن خمس سنوات، وبين من يفترض أن يتخطّاها إلى عشر وهؤلاء من المنتصرين بتطرّف إلى منطق الديمومة. طائفة أخرى من الكتاب تقدّر المسألة في سنتين بأدنى الأحوال، والشائع منهم لا يتصوّر أن تُكتب الرواية في أقلّ من سنة. وأمّا فلاسفة الزمن من فيزيائيي الرواية وهم من أقلّيتها فلا يعيرون هذا النقاش كسرة انتباه، إذ كلّ رواية هي من يختار زمنها الخاصّ، وما يراه هذا الكاتب تقديرا لحوليات الوقت الروائي بعشر سنوات يمكن أن يكون بحساب مشقّة التكثيف عند ذاك محض سنة أو شهر أو أسبوع حتّى، ألم ينجز كافكا رواية "التحوّل" في عشرين يوما! وبعده أنجز الروائيّ البرازيليّ ماري ودي أندرادي روايته "ماكوناييما، بطل بلا شخصية" في ستة أيّام، وكذلك أنجز ري برادبري روايته "451 فرنهايت" في تسعة أيّام، ووليام فوكنر أنجز رواية "بينما أرقد محتضرة" في ستة أسابيع... إلخ
لكلّ مغامرةِ كتابةٍ زمنُها الخاصّ بل حريتها اللامشروطة قبل كلّ شيء، لا مفاضلة بين الأمرين إذن، فاستطالة المدة أو قصرها ليس مهمّا، إنّ ما يهمّ فعلا هو القيمة الجمالية للعمل الروائيّ
قطعا لستُ من المنحازين لتوقيت أعمال هؤلاء، ولكن إذا ما احتكمنا لزمنيتها الفيزيقية فقد أنجزت في وقت قياسي، عكس ما يراه الكتاب الحوليون، وبذا نتساءل كيف نجحت هذه الأعمال في أن تخلد، وتترجم لأكثر من لغة، وتطبق شهرتها الآفاق؟
علينا أن نصرف النظر عن التوقيت الذي تستغرقه كتابة الرواية عندما يتعلق الأمر بالمنطق الذي يُفرض على الكاتب تقويمها الزمنيّ كما لو كان ملزما كقانون وشرط، أو كما لو كانت وصفة مقدسة، والحال أنّ لكلّ مغامرةِ كتابةٍ زمنُها الخاصّ بل حريتها اللامشروطة قبل كلّ شيء، لا مفاضلة بين الأمرين إذن، فاستطالة المدة أو قصرها ليس مهمّا، إنّ ما يهمّ فعلا هو القيمة الجمالية للعمل الروائيّ، هل الرواية رواية فعلا؟ وعدا ذلك فلا قيمة للتوقيت إطلاقا، سواء قسناه داخليّا أو خارجيّا.
سيّانَ كُتِبَتْ في سنةٍ أو في مائة سنة، المهم هو أن تكون رواية بالفعل، وليس محض هراء.