السلاح السري الذي استعمله الرئيس فلاديمير بوتين في حروبه الخارجية وتمدد نفوذه في العالم، تحداه واستعرض عضلاته وذخيرته على الطريق إلى موسكو، عاصمة "روسيا العظيمة".
الخناجر الطائرة التي كانت تعبر في الظلام، الحدود والقارات والبحار، لتنشر دعاية الكرملين ونفوذه، بات "القيصر" يراها سكاكين "تطعنه في الظهر".
يفغيني بريغوجين، ذاك الرجل الذي أسس "جيش فاغنر" ودربه وطوره، وحاز على ثقة الرئيس وأسراره، ونال الأوسمة والألقاب في قاعات الكرملين، بات "خائنا".
قائد "فاغنر" الذي دعم كثيرين كي يبقوا في القصر هنا أو يدخلوا إلى القصر هناك، وضع عينه على كرسي القصر الروسي.
هذا "الخائن" يتمرد بالسلاح ويتحدى صاحب القبضة الحديد ويعلن نياته. نال صفات "الخيانة" والتلويح بـ "العقاب العظيم"، لكنه، أيضا، ينال "العفو" ويذهب إلى المنفى في بيلاروسيا وينجو من حبل المنشقة... إلى الآن على الأقل.
ليس قليلا أن يتحدى رجل روسي، الرئيس الروسي. ليس قليلا أن يكون الأول بريغوجين، والثاني بوتين. أن يأتي التهديد للرئيس من "طباخه". أي ينقلب عليه صاحب الوصفات السحرية لوجباته. ليس قليلا أن يضطر بوتين إلى أن يخرج من قصره، ليلقي كلمة إلى الروس، لا ليستعرض الإنجازات العسكرية والفضائية والاختراقات الروسية في العالم، وضم أقاليم في دولة أو انطلاق "حرب ضد الإرهاب" في دولة أخرى، أو التحرك لمنع "حرب أهلية" في ثالثة، بل ليعلن أن "تمردا" مسلحا يحصل في البلاد، وأنه سيحاسب "المتمردين" ولن يسمح بـ"حرب أهلية".... في روسيا.
ليس قليلا، أن يقبل بوتين الرهيب، العفو عن "الخائن"، ليخرج سالما بسيارته من روسيا إلى بيلاروسيا. ليس قليلا أن يخرج الى المنفى وليس إلى القبر.
العبارات التي استخدمها بريغوجين لدى إعلان بدء تمرده، نسخة من العبارات التي استعملها حليفه السوداني، "حميدتي" عندما أعلن التمرد على رئيس المجلس السيادي وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان
هذه ليست كل القصة. لها جوانب مختلفة. أمر لافت، ذلك التشابه إلى حد التطابق في بعض جوانب ما يحصل في روسيا، وما حصل في ساحات أخرى، ودول وجيوب تدور في الفلك الروسي، كانت موسكو و "قوات فاغنر" قد تدخلت فيها. وهنا بعض التشابكات والمقارنات:
السودان: العبارات التي استخدمها بريغوجين لدى إعلان بدء تمرده صباح السبت، نسخة من بيانات حليفه السوداني، محمد حمدان دقلو (حميدتي) عندما أعلن التمرد على رئيس المجلس السيادي وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان في أبريل/نيسان الماضي. بريغوجين كما "حميدتي"، قال إنه بدأ "مسيرته العادلة" إلى العاصمة، ولن يوقفها قبل "شنق" أو "إعدام" قائد الجيش.
"حميدتي"، علمه ودربه وموله الجيش وألهمه "جيش فاغنر". وبريغوجين تربى وتدرب وتمول من قبل الجيش الروسي. عندما زادت قوة ودور كل منهما في "الإنجازات"، وضع كل منهما عينه على قيادة الجيش والسلطة. فرق أساسي، إلى الآن، أن بريغوجين، في البداية، صب غضبه على قادة الجيش وليس على بوتين. الفرق الثاني، أن "التمرد" الروسي انتهى بوساطة "صديق" المتخاصمين، المعلم و "الطباخ"، الرئيس البيلاروسي، فيما لا يزال الجنرالان السودانيان في حربهما في أزقة الخرطوم وامصار البلاد.
اقرأ أيضا: أن تكون "طباخ" بوتين... وتتمرد عليه
سوريا: الرئيس الراحل حافظ الأسد كان اعتمد على شقيقه رفعت و "سرايا الدفاع" في الحرب ضد "الإخوان المسلمين" وفي التحكم بكثير من خصومه في الداخل والإقليم. عندما قويت شوكة رفعت و "سراياه"، انتهز مرض شقيقه، كي يطوق العاصمة بداية ثمانينيات القرن الماضي. وقتذاك، الذي حسم هو التفاف الجيش وقياداته حول الرئيس الأسد ووساطة من موسكو، عاصمة الاتحاد السوفياتي، بين الشقيقين، ثم قيام الرئيس بالنزول شخصيا إلى الشارع لمواجهة شقيقه رفعت والقضاء على تمرده ثم "تهميشه إلى الأعلى" بتعيينه نائبا للرئيس ثم إرساله إلى المنفى... الروسي.
كان مصير "المتمرد" رفعت على الطريقة السورية (عاد قبل فترة إلى دمشق والتقى الرئيس بشار الأسد وعائلته علنا)، مختلفا عن مصير "المنشق" حسين كامل صهر الرئيس صدام حسين. الأخير انشق على عمه الرئيس، وذهب إلى الأردن منتصف تسعينات القرن الماضي، ثم عاد بضمانات رئاسية وعائلية. لكن عشيرته، أخذت بثأرها... وقتلته بوابل من الرصاص.
بوتين نفسه، حاول نسخ تجربة سورية مماثلة بعد التدخل العسكري المباشر في سوريا نهاية 2015. اعتمد بريغوجين مدعوما من رئيسه بوتين، على قائد عسكري سوري اسمه العميد سهيل الحسن الملقب بـ"النمر". لعب دورا كبيرا في الحرب السورية. باتت قواته تسمى "قوات النمر"، على اسمه. كان الوحيد الذي أصر بوتين على وجوده في اللقاء الثنائي مع الرئيس بشار الأسد في قاعدة حميميم الروسية.
أدرك الأسد مبكرا خطورة هذا المسار و"وديعة" بوتين. غيّر اسم "قوات النمر" إلى "الفرقة 25". اندمجت في الجيش، وحرص الحسن مرات عدة على إعلان الولاء للرئيس الأسد.
تركيا: هناك تشابه بسيط بين الحالتين. الرئيس رجب طيب أردوغان كان قد اعتمد على جماعة فتح الله غولن ليتمدد في البلاد والمؤسسات. لكن المفاجأة كانت عام 2016، عندما جرت محاولة انقلابية. صحيحة أم مبرمجة؟ قيل الكثير. أردوغان قبل 2016 غيره بعدها. تركيا تغيرت كثيرا أيضا.
بين القادة القلائل، الذين وقفوا إلى جانب أردوغان في لحظاته الحرجة، كان بوتين. اتصل به ودعمه. هناك من قال إن بوتين أول من حذر "صديقه" أردوغان من محاولة انقلابية. ليس غريبا إذن أن يكون أردوغان بين زعماء قلائل اتصلوا به السبت، في لحظات "القيصر" الحرجة.
نهاية هذا الفصل الجديد في روسيا، ستترك أثرها على النفوذ الروسي الناجم عن وجود عشرات الآلاف من قوات "فاغنر" في ساحات مشتعلة عديدة، بينها سوريا والسودان وليبيا وأوكرانيا
قائمة المقارنات والتداخلات طويلة بدرجات مختلفة؛ تشمل ليبيا وموقف قائد الجيش خليفة حفتر شرق البلاد، ودولا أفريقية وغير أفريقية.
في اليوم الروسي الطويل، تدوال محللون، الكثير من السيناريوهات، بين تحول "التمرد المسلح" إلى "حرب أهلية" أو تحرك قوى عسكرية وسياسية في البلاد ضد بوتين، وبين تمكن بوتين من القضاء على هذا وقطع رأس الخيانة. في النتيجة، كانت التسوية: إنهاء بريغوجين لتمرده مقابل خروجه سالما إلى بيلاروسيا، مع عودة عناصر "جيش فاغنر" إلى معارك أوكرانيا والعفو عنهم ودمج العناصر، في أوكرانيا وباقي انحاء العالم، في الجيش الروسي.
حلفاء روسيا وخصومها في هذه الدول، يتابعون مآلات هذا الفصل من التاريخ الروسي المفعم بالتطورات وانشغال الجيش ومرتزقة "فاغنر" في توتر داخلي. هناك كثير من الأسئلة: هل ولاء مرتزقة بريغوجين إلى بوتين أم "طباخه"؟ ما تأثير ذلك على معنويات المرتزقة والجيش الروسي في خطوط القتال في أوكرانيا؟ في سوريا، جرى تفكيك "سرايا الدفاع" ودمجت شكليا في الجيش وجرى إبعاد رفعت لعقود عن السلطة إلى خارج البلاد، هل يمكن نسخ "التجربة السورية"؟ كيف سيتم عمليا تفكيك "جيش فاغنر" في مناطق النفوذ في العالم، وضم عناصره إلى الجيش الروسي؟ ما الكلفة السياسية والدبلوماسية والعسكرية، التي ستدفعها موسكو الرسمية من أن يصبح "الجيش السري" في العالم جزءا من الجيش النظامي؟ ما منعكسات كل ذلك على التوازنات الداخلية الروسية ولعبة القصر؟
التمرد، ثم التسوية، والعفو، والدمج، صفحات في فصل روسي جديد. نهايته لم تكتب بعد. النهاية ستترك أثرها على النفوذ الروسي في ساحات عربية مشتعلة عديدة، بينها سوريا والسودان وليبيا.