يبدو لافتا في أوساط الشباب العرب من الجنسين في عصرنا هذا ترديد عبارات من قبيل "إنني أحترق وظيفيا"، أو "أعاني من ضغط العمل"، وذلك بعد أن اكتسحت أحاديث العمل وهمومه وصراعاته وتحدياته والمنافسة على الترشيح لوظيفة أو الترقية لمنصب أعلى، جلّ أوقات الشباب. وإذا كانت هذه حال الشباب الخليجي والعربي، فكيف الحال في مجتمع يعدّ في طليعة البلدان الصناعية الغربية، مثل إيطاليا.
في كتاب الروائية الأميركية إليزابيث جيلبرت "طعام، صلاة، حب"، نقرأ عبارة Il dolce far niente الإيطالية، والتي تعني "جمال عدم فعل شيء".وهي عبارة يرى تجلياتها كل زائر إلى إيطاليا أو مطلع على ثقافتها، باعتبارها معيارا اجتماعيا يشكل نمط حياة يميز الإيطاليين، وتظهر آثاره في نمط سلوكهم اليومي وانفتاحهم على الحياة وفنون الطعام المنتقاة مقاديره بعناية، فالجميع يعرف مزايا المطبخ الإيطالي وولع الإيطاليين بالاحتفاء به ضمن مجموعات كبيرة من الأهل والأصدقاء وما يسميه الإيطاليون "التفنن في صنع شيء من لا شيء" عبر تحويل اللحظات إلى فرص للاستمتاع اليومي، والاجتماعات البسيطة إلى مهرجانات من التسلية والضحك الصاخب. فما الحال إذن في تصوراتهم ونظرتهم للعمل؟ بالرغم من هذه الطبيعة المحبة للحياة، إلا أن الإيطاليين مجتهدون في العمل، ورغم كدح بعضهم فإن ذلك لا يمنعهم من الاستمتاع بـ "جمال عدم فعل شيء"، وبفن صنع شيء من لا شيء، وهو ما نراه من خلال تحويل بعض المكوّنات البسيطة إلى بيتزا لذيذة، فالسعادة لديهم ليست حكرا على الأغنياء ولا تتطلّب كل هذا الشقاء والكدح.
ليس هناك ظاهرة اجتماعية لها تأثير أكبر على نوعية حياة الإنسان من العمل. وبالتالي، فإن العمل يستحق المستوى نفسه من التدقيق الفلسفي مثل الظواهر الأخرى المركزية للنشاط الاقتصادي أو الاجتماعي
الحديث عن الغنى وطبقة الأغنياء لا ينفصل عن الحديث عن طبيعة العمل ومفهومه وفلسفته، إذ تكرّس الفلسفة موضوع العمل ضمن أهم تساؤلاتها: من يجب أن يعمل، كيف نعمل، ولماذا نعمل ونكدح؟
يضمّ تاريخ الفلسفة مجموعة من وجهات النظر المتباينة فيما يتعلق بقيمة العمل في حياة الإنسان، إلا أن من أوائل من نظر فيه أفلاطون، في جمهوريته، إذ اعترف بمركزية العمل في الحياة الاجتماعية والشخصية واقترح نظاما للتخصص في العمل قسمه ثلاث طبقات اقتصادية: الطبقة العاملة، ورجال الأمن والطبقة الحاكمة. هذا في التاريخ، إنما لو نظرنا إلى واقع المجتمعات المعاصرة لوجدنا أن مفهوم العمل بات يتمحور حول "الوظيفة"، حسب ما ذكره أندريه غورس في كتابه "نقد العقل الاقتصادي"، فالعمل مصدر أساسي للدخل، أي أنه سمة مركزية للحياة اليومية تقع على كاهل الشباب والبالغين كضرورة حتمية لجلب المال.
يمكن القول إذن، إنه ليس هناك ظاهرة اجتماعية لها تأثير أكبر على نوعية حياة الإنسان من العمل. وبالتالي، فإن العمل يستحق المستوى نفسه من التدقيق الفلسفي مثل الظواهر الأخرى المركزية للنشاط الاقتصادي (الأسواق أو الملكية) أو الاجتماعي (الأسرة)، وبالتالي من المهم وضع خطوط واضحة لهذا الدور الذي نقوم به وكم يستهلك من أوقاتنا وأعمارنا.
على سبيل المثال، يشدّد الفكر الكونفوشيوسي التقليدي على العمل الجاد والمثابرة والحفاظ على العلاقات المهنية، والتوافق مع القيم التنظيمية. أفلاطون وأرسطو أيضا أعليا من مكانة الحرفة والنشاط الانتاجي القائم على المعرفة، إنما لم يغفلا ضرورة الترفيه من أجل حياة فاضلة. كما لا تخلو الديانات السماوية الثلاث من مفاهيم تعلي من قيمة العمل وتحض عليه. أما الثورة الصناعية فقد خلقت بدورها مفهوم الطبقية واللهاث المحموم في ترسانة العمل اليومي والسعي الدؤوب لدرجة أن الفرد يتآكل بفعل الاستهلاك السلبي لطاقاته كعامل مسير للعمل سواء بدافع خارجي (سلطة الدين أو المجتمع…) أو بدافع شخصي داخلي (السعي للمكانة، الطموح المادي…).
نهدف في عملنا إلى إنتاج سلع أو فوائد يمكن للآخرين الاستمتاع بها والاستفادة منها. وبالتالي، لا يجب أن يتمحور العمل فقط حول الربح المادي وزيادة الإنتاجية، إنما حول الفرد الذي ينتج ويحقق الأرباح
خلال محاضرة قدمها البروفسور الأميركي مايكل بوند المتخصص في علم الثقافة النفسي عام 2019 في كوستاريكا ضمن أعمال مؤتمر تابع لجمعية علم النفس العابر للثقافات، لفت نظري أن المحاضر كسر القاعدة إذ قدم عرضه بخط ملون تلتف حروفه بطريقة مبهجة وكأنه معلّم يخط على اللوح مادة علمية لأطفال في مراحل تعليمهم الأولى، إلا أن عرضه هذا احتوى على نتائج بحوث طولية وممتدة للإجابة عن سؤال: لماذا نعمل، وما علاقة العمل بالرضا وجودة الحياة؟ بدأ بوند حديثه بصورة معبرة عن نهر صغير كتبت تحته عبارة باليابانية، تعني "إن كبرت فلا تنسَ النهر الذي شربت منه يوما"، وبدأ بقائمة طويلة يشكر بها كل من ساعده في مسيرة عمله كباحث وأكاديمي وعالم في مجاله وأنهى حديثه الشائق حول قيادته لمشروع بحثي دولي كبير لإعادة التوازن بين العمل والحياة بأن دعا الجميع للرقص.
الرسالة التي كان يود البروفسور بوند إيصالها، هي أننا ولكي ننجح في الحياة العملية فلابد من حفظ التوازن بين العمل والحياة والعلاقات.
من ناحية أخرى، شهدت السنوات الأخيرة زيادة في الأبحاث حول العمل التي نظرت إليه بصورة تشاؤمية باعتباره نتاج "أزمة" أو سببا لها، وبأن التفاوت الاقتصادي ينشأ في المجتمعات التي تركز على العمل والانتاج فقط، وهو ما من شأنه الحدّ من فرص العمل بسبب عوامل منها الأتمتة التكنولوجية المسبّبة لإلغاء بعض الوظائف والتي تبشر بعصر من البطالة المرتفعة المستمرة.
فهل الكسب المادي هو الدافع الوحيد للعمل؟ لا أظن ذلك، ولذلك لابد من تحديد مفاهيمي لمعنى العمل؟ وهل يتضمن قيما موضوعية؟
العديد من تعريفات العمل تنظر إليه باعتباره "مجهودا أو إجهادا" أو "كدحا"، وانطلاقا من ذلك، فإن العمل ومكان العمل، لابدّ من أن يكون شاقا ضاغطا. إلا أن تعريف العمل بهذه الطريقة لا يأخذ في الحسبان فكرة أن يكون العمل مصدرا للمتعة بحيث لا يشعر العامل بأنه عبء، وبأن يستمتع بما يقوم به، حتى لا يشعر بأنه مصدر إجهاد، فالقيمة الضمنية للعمل لا يجب أن تكون الوصول إلى حالة الإجهاد، لأننا في نهاية المطاف نهدف في عملنا إلى إنتاج سلع أو فوائد يمكن للآخرين الاستمتاع بها والاستفادة منها. وبالتالي، لا يجب أن يتمحور العمل فقط حول الربح المادي وزيادة الإنتاجية، إنما حول الفرد الذي ينتج ويحقق الأرباح، ومن هنا ضرورة ما البحث عن السبل الناجعة لتحقيق هذا التوازن الذي يحقق الأهداف الاقتصادية، وفي الوقت نفسه لا يوصل العامل أو الموظف إلى مرحلة الاحتراق.