كل الناس يتناقضون مع أنفسهم، لكن وحده من أصيب بلعنة الكتابة يستطيع أن يبصر تناقضاته بشكل واضح ما بين حين وآخر، وهي ملقاة في الفضاء العمومي. من لا يكتب قد لا يبصر هذا، وقد يبصره ويشك فيه، وقد يبصره ويكابر. وإن كان يملك ذاكرة سيئة ومقدارا من القدرة على الحِجاج فبإمكانه دائما أن يُنكر أنه قال الشيء ونقيضه. أنت وحدك أيها المصلوب في الساحة لا تملك هذه المزايا ولا تجد هذا الملاذ. إذا تجاوزنا طلب الغفران، وتخلينا عن العناد في الوقت نفسه، فكيف لنا أن نفهم التناقض؟ وكيف ننتقل منه لفهم تناقضاتنا الخاصة؟ ما التناقض؟ في جملة: هو قصور في لحظة الوعي يؤدّي بنا إلى أن نأتي على أمر محكم فننقضه ونبطله كمن ينقض اليمين أو ينقض العهد. وقد نشعر في لحظة بأن الصواب خطأ والخطأ صواب، وقد تتغير وجهات نظرنا عبر الزمن، فالزمن سبب التناقض والكاشف له.
كان القدماء يقولون إن تناقض قولين يعني تعارضهما، وإذا وُصف الكلام بكونه متناقضا، فالمراد أن بعضه يقتضي بطلان بعض. التناقض اختلاف تصوّرين إثباتا ونفيا، وكانوا يضربون مثلا له بالدائرة المربعة فالتدوير والتربيع لا يجتمعان أبدا. ولعلّ من المضحك أن نعلم أن هناك من حاول أن يثبت وجود الدائرة المربعة حتى اضطر بعض علماء الهندسة إلى كتابة أبحاث يقرّرون فيها استحالة الأمر.
من الضروري أن نفهم التناقض وأن ننتقل منه إلى فهم تناقضاتنا الخاصة بوصفها لحظات قصور في الوعي، سننتقل منها إلى ما هو أفضل. ولذلك لا ينبغي أن نعيّر أحدا بأنه متناقض، وكأننا قد اصطدنا فريسة، أو اكتشفنا عيبا
هذه طبيعة التناقض: وجود أمرين متعارضين، إذا وقع الأول لم يقع الثاني. وكانوا قديما يرون التناقض منافيا للمعقولية، لأن من شرط العقل أن يكون متفقا مع نفسه. لكن العقل يقع في التناقض أحيانا، هذه سمة إنسانية. وحده الفيلسوف الألماني هيغل وجد حلا لهذه المعضلة بناء على فهمه أن الفكر كله صراع، وأن الحياة برمتها صراع، ولا مناص أبدا من وقوع هذا الصراع، فالحرب أم الجميع. تنشأ في العقل وفي الوجود وفي حياة الناس فكرة، فيهيمون بها إعجابا وتقديرا لفترة من الزمن. ومع مرور الأيام يتضح لهم ما في هذه الفكرة من خلل، ويتتابع اكتشاف منابع الخطأ حتى يكتمل جسد فكرة جديدة مناقضة تماماً للأولى، وحين تكتمل يشتدّ صراع الفكرتين أكثر، ويبدأ جيش الدفاع في صد الفكرة الجديدة وإظهار خللها، وما في الفكرة الأولى من مزايا. قصف المدافع بين الفكرتين ينشأ عنه تشقق في البنية الهيكلية لكل منهما، فتبدأ كل واحدة منهما في التخلي عما سقط من جسدها، حتى يصبح لها جسد جديد لكنه أقل، ويحتاج إلى تتمة. هنا تلجأ إلى نقيضتها فتستعير منها ما تحتاج إليه، وتنتقل حمى الاستعارة إلى الفكرة النقيضة فتستعير من الأولى وتندمجان في جسد واحد. هنا نحصل على مركب من الفكرتين. هذا المركب في الحقيقة، هو فكرة جديدة تبقي أفضل ما في الفكرتين وتتخلّى عما هو آيل للسقوط.
هذا المركب (الفكرة الجديدة) ليس كاملا بدوره، وسرعان ما يجري عليه ما جرى للفكرة الأولى، وهكذا يستمر صراع الأفكار إلى الأبد، ولا شك أن في كل هذا الصراع ما ينفع الناس ويناسبهم لفترة من الزمن. ثم سرعان ما يشعرون بما شعروا به من قبل.
هكذا، من الضروري أن نفهم التناقض وأن ننتقل منه إلى فهم تناقضاتنا الخاصة بوصفها لحظات قصور في الوعي، سننتقل منها إلى ما هو أفضل. ولذلك لا ينبغي أن نعيّر أحدا بأنه متناقض، وكأننا قد اصطدنا فريسة، أو اكتشفنا عيبا.