معجم الحيوان
كذلك دشّن الروائيّ "يوسف فاضل" أفقه الروائيّ بأوّل نصّ تحت عنوان "الخنازير" 1983، وآلت مجمَل عناوين رواياته اللّاحقة في مجرى الألفيّة الثالثة، ملازمة لمعجمِ الحيوان، العنوان تلو الآخر، "قصة حديقة الحيوان" 2008، "قطّ أبيض جميل يسير معي" 2011، "طائر أزرق نادر يحلّق معي" 2013، و"حياة الفراشات" 2020، وجديرٌ بالذكر أنه صدر له نصّ مسرحيّ بعنوان "جرّب حظك مع سمك القرش" 1987.
إن كانت رواية "قطّ أبيض جميل يمشي معي" قد رسمت أفق إواليةِ القطِّ عبر مُعلَنِ بدايتها وهو مقتطفٌ قرآنيٌّ من سورة "ص"، الآية(16): "وقالوا ربّنا عجّل لنا قطّنا قبل يوم الحساب" والمقصود بالقطّ هنا الكتاب، وبذات المنحى جعلتْ روايةُ "طائر أزرق نادر يحلّق معي"، من الطّائر - الذي زار زنزانة الطيّار "عزيز" وآنسه في وحشةِ مكابدات الاعتقال المزمنة-المصدرَ الاستعاريَّ لعنوانها ومُجمل تجربة الطيّار قبل وعند الاعتقال، فبالمقابل أفردت هذه الرّوايةُ الأيقونةُ للكلبة "هندة" مساحة الحكي عن نفسها والآخرين، كشخصيّة روائيّة فاعلة، شاهدة هي الأخرى على تاريخ القصبة ومصائر معتقليها بين من دُفِن حيّا وبين من قضى نحبه من فرط التعذيب.. إلخ
حَيْونَةُ العناوينِ عند "يوسف فاضل" إيهاميّةٌ إذا ما قوبلتْ بموضوعات رواياته، أشبه ما تكون بلعبة يستدرجكَ إلى متاهتها بغوايةِ الوحيشِ، وعندما تتعقّبُ أثرَ القطِّ أو الطّائر سيّان، لا تجد سوى ظلّه المنفلت، أو سرابه الآفل، ومع ذلك لا تخيب في أن يكون ذَانِكَ هما دليلكَ نحو ما يفاجئك به السّرد من التيه في الأزمنة الحارقة للتجارب الإنسانية التي اصطدمتْ بالسلطة، أو تماسّتْ مع بروقها اللاسعة، فكانت المضاعفات السوداوية لمصائرها فادحة.
ممرّ الصفصاف
ومن الرّوايات التي تفرّدتْ بموضوع الحيوان وتخييله، "ممرّ الصفصاف" 2014 لأحمد المديني، حتّى إنّ شرارة كتابتها بدأت بنظرة من كلب، وبهذا يحنثُ الكاتبُ قسَمهُ المرفوعُ آنفا بأنّ رواية "رجال ظهر المهراز" 2007 السّابقة، ستكون الأخيرة، معتزلا بذلك الكتابة إلى لا رجعة، وأمّا أن يعود إلى الكتابة الروائية بعد القطع معها، وبسبب كلب، ويا للطرافة والغرابة في آن، فاستثناءٌ بمثابة كفّارة.
تنصفُ الروايةُ "الكلب" جاعلة منه بطلا محوريّا شاهدا على تضاعيف مأساةٍ أحدُ فصولها المتعدّدة، انتزاعُ أرضٍ من مالكيها لصالحِ مشاريع عقارية لقيطة، فيرويها "الكلب" بطريقته أمينا بلباقة ومُفصِّلا ببراعة، أبلغ بكثير من شهادات الشخصيات الآدمية التي تشاركه الحكي بتعدّدٍ متوازن، وبذا زاوجت "ممر الصفصاف" في استراتيجيات سردها بين منظورٍ إنسانيّ، ومنظورٍ حيوانيّ، لا غنى عن كليهما لكي تستقيم الرّؤية، والمعادلة.
حَيْونَةُ "ممرّ الصفصاف" كقيمةٍ ومعنى، لا تقتصر على الشخصيّة الروائية التي يضطلع بها الكلب كفاعلٍ خلّاقٍ في مجرى الوقائع وتشابكها، إنّها تتخطّى ذلك إلى قَلْبِ المعادلة برمّتها التي يصير فيها عالم (بني كلبون)، أصدق وأوفى من عالم (بني البشر).
سيرة حمار
وأمّا رواية "سيرة حمار" 2014، لحسن أوريد فقد تناصّتْ حدّ التطابق مع "الحمار الذّهبي" للوكيوس أبوليوس المُلمع إليه سالفا، وواءمت بين مكابدات شخصية "لوكيوس" في زمن سحيق، وبين مكابدات شخصيّة "أزربال ابن بوكود يوليوس" في زمن لاحق ينسحب على الرّاهن، مستعيرة بسخرية كرنفاليّة قناع الحمار، لتشخيص الاختلال الحضاري، صارخة في الإفصاح عن ألعبان السلطة، ورسم خرائط المعضلة من منظورات يتعالقُ فيها السياسيّ بالفلسفيّ، والفنّي بالعلميّ، والعرقيّ بالتاريخيّ...
ثمّ تضاعفُ رواية "هوت ماروك" 2016 لياسين عدنان من صيرورة الحيوان تخييلا، أشبه ما تكون بمزرعة حيوان مغربيّة، مُعَادِلة بدعابة سوداءَ المحفل السياسي الكاريكاتوري، ومشرّحة مناطق التّلفيق المزمن في جسم الرّاهن المتداعي، بمباضعِ السّخريّة اللاذعة، وهي محض كوميديا حيوانيّة، جعل لكلّ شخصيّة من شخوصها الرئيسة قرينٌ حيوانيٌّ يطابقهُ أخلاقيّا ووجوديّا، فرحّال العوينة يماثلهُ الجرذُ المتخفّي في ذيل سنجاب، وحسنيّة زوجته قنفذة، وحليمة أمّه بجعة، وعبد السّلام سرعوف، والطالبة عتيقة بقرة، والطالب أحمد ضبع، والطالب عزيز سلوقي، والصحافي نعيم مرزوق حرباء، وأنور ميمي رئيس التحرير نمس.. وقِسْ على ذلك من القرد والفيل.. إلخ. حتى أنّ الأحزاب الرّديئةُ تدمغها الرواية بوصماتِ الحيوانيّة التي تُحيل على وجوهِ وطبائعِ انتهازيّتها، مثل حزب (الأخطبوط)، و(الناقة)، و(البلشون).. إلخ.
إذ تُشرّح "هوت ماروك" الفساد المستفحل في الزّمن السياسي والإعلامي، متقصية التحولات الاجتماعية الفصاميّة بين حقبة سنوات الرّصاص والآني، وذلك توسُّلا بمسوخِ الحيوان، فهي بالتّوازي، ترسمُ خرائط مدينة مراكش المتشابكة، متأرجحة بين الكرنفاليّ والأبيسوديّ.
الغيلم
رواية متفرّدة أخرى استأثرت بتوظيف الحيوان على نحو لاذع ومثير، هي "ثورة الأيّام الأربعة" 2021 لعبد الكريم جويطي، من خلال الغيلم "سرمد"، الذي يضطلع بقيمة شخصية محوريّة في مجرى الوقائع اللّاهبة، وهو الآخر لا يقفُ مَسْرَدُ الرواية الملحميّة عند حدود المُتحدّث عنه كحيوانٍ من لدن السّارد ومنظوره الإنسانيّ، بالأحرى من صديقه الذي عثر عليه مصادفة وتلقّفه معه ليرافقه في رحلة ثورة الانقلاب على المخزن، بجبال الأطلس المتوسط، ولكن أيضا ينتزعُ مساحتهُ المركزيّة كشاهد فعلي على ما يحدث من جهة، ومن جهة ثانية يؤشّرُ حضورهُ اللااعتباطي على وظيفة رمزيّة بليغة يتحوّل إثرها إلى شخصيّة مفهوميّة بالمعنى الدّولوزيّ، إذ الغيلم سرمد يمثّلُ استعاريا منظومةإنسانيّة نَعَتَهَا المؤلّفُ بـ: (السّرمدويّون)، فالمُصلِح وفق فلسفة الرواية محضُ سلحفاةٍ، وأمّا الثوريُّ فأرنبٌ يريدُ قطعَ مسافة كبيرة بقفزة واحدة، تلك هي حكمة البطء المثمر بحسب توقيتِ الزّمن الإصلاحيّ، مقابلَ هلامية أو طيش السرعة القصوى الثورية غير محمودة العواقب.
وكأنّ المعادلة الساخرة باتت في الرواية: ثورة بلا "سرمد" لا يعوّل عليها، إذا ما استعرنا لازمة رسالة ابن عربي الشهيرة.
ولأنّ الرواية رباعيّة الأجزاء كما هو معلنٌ، على مقاس الأيام الأربعة الثورية، فالغيلم "سرمد"يوازي في ثقله الوازن في كفّة، معظم الشخصيات الإنسانية الأخرى في كفّة أخرى، ولعلّه وفق استراتيجيات الحكي والتّخييل من ستكون لهُ ريادةُ رسم مساراتها النّهرية ومآلات مصائرها المتشعبة، إذ القارئ -ولا بدّ أن يكون عدّاء يحترفُ سباق المسافات الطويلة، ممسوسُ الترقّب، متوقّدُ الشّغفِ بتعقّبِ حكايته الأثيرةِ ضمن غابة الحكايات الأخرى، الموازية أو المتقاطعة في آن.