عندما توجه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى بكين في 18 يونيو/حزيران، قال إن زيارته تهدف إلى فتح خطوط اتصال مباشرة من أجل تجنب الحسابات الخاطئة. هل هذا كل شيء في محادثاتٍ هي الأولى لمسؤولٍ أميركي بهذا المستوى منذ زيارة وزير الخارجية الأسبق مارك بومبيو في يونيو "حزيران" 2018؟ نعم. ديبلوماسية فقيرة يُحّركها القلق من الأسوأ، وليس التطلع إلى الأحسن. وهذا ما عبر عنه، في تصريح ثان، بقوله إن اشتداد التنافس بين الدولتين يتطلب عملاً ديبلوماسيًا لضمان عدم تحوله إلى صراعٍ أو مواجهة.
هدف صغير هو كل ما كان مرجوًا في محادثاتٍ رفيعة المستوى بين الدولتين الأكبر والأقوى في عالم اليوم. ولكن ألا توجد أهداف أكبر يمكن التفاهم بشأنها عبر إجراء حسابات صحيحة بدل الاقتصار على سعيٍ إلى تجنب الحسابات الخاطئة؟ الإجابة بالإيجاب أيضًا. يوجد الكثير من هذه الأهداف إن حرص الزائر، والمزور أيضًا، على دعم مصالح مشتركة تجمعهما ولا غنى لأي منهما عنها، فضلاً عن أن تعظيمها يفيد العالم ويُقلَّل تهديدات تواجه البشرية في مرحلة تُعد الأخطر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ديبلوماسية فقيرة يُحّركها القلق من الأسوأ، وليس التطلع إلى الأحسن. وهذا ما عبر عنه بلينكن، في تصريح ثان، بقوله إن اشتداد التنافس بين الدولتين يتطلب عملاً ديبلوماسيًا لضمان عدم تحوله إلى صراعٍ أو مواجهة
السياسة الأميركية تجاه الصين غارقة، إذن، في مناورات تكتيكية فيما الذي تغيب أو تتضاءل الرؤية الاستراتيجية. لا تختلف السياسة الصينية كثيرًا، ولكن ليس لفقرٍ استراتيجي بالضرورة، بل لأنها رد فعل في الأغلب الأعم على مواقف وتحركات وقرارات أميركية. لم تتعامل بكين، على سبيل المثال، بجديةٍ كافية مع مدير وكالة الاستخبارات المركزية بيل بيرنز عندما توجه إليها في مطلع مايو "آيار" في زيارةٍ لم يُعلن عنها في حينها. وعاد خاوي الوفاض بشأن طلب الحفاظ على خطوط اتصال مفتوحة في القنوات الاستخباراتية والعسكرية والدبلوماسية، وهو الهدف الصغير الذي يشغل دولةً كبيرةً بل الأكبر!!.
المسافة بعيدة بين كل من أميركا والصين وبين أية دولة أخرى كبيرةً كانت أو صاعدة. لدى كل منهما من مقوماَّت القوة الشاملة ما يؤهلَّهما لأداء دور تاريخي في حالة التفاهم بينهما. تستطيعان في هذه الحالة تحديد اتجاهات العلاقات الدولية لعقود قادمة، بشرط أن تُقدَّما تنازلاتٍ متبادلةً لتلتقيا في منتصف طريقٍ هو الأفضل لكلٍ منهما، والأكثر ملاءمة للعالم أيضًا من زاوية تحقيق استقرارٍ مفقود الآن على المستوى الدولي، وتجنب أو على الأقل وضع حد لأخطارٍ متزايدة تُهدَّد البشرية إن استمرت حالة عدم الاستقرار وتفاقمت.
السياسة الأميركية تجاه الصين غارقة، إذن، في مناورات تكتيكية فيما الذي تغيب أو تتضاءل الرؤية الاستراتيجية. لا تختلف السياسة الصينية كثيرًا، ولكن ليس لفقرٍ استراتيجي بالضرورة، بل لأنها رد فعل في الأغلب الأعم على مواقف وتحركات وقرارات أميركية
ولا يتطلب المضي في هذا الاتجاه سوى إجراء حسابات صحيحة في إطار رؤية استراتيجية طموحة، وليس البقاء في أسر السعي إلى تجنب الحسابات الخاطئة التي ظهر خطرها بشكلٍ أكثر وضوحًا في الأشهر الأخيرة فقد كان الطرفان قريبين من احتكاكٍ مباشرٍ من النوع الذي فد يقودُ إلى مواجهةٍ إن خرج عن السيطرة وحدث ذلك أكثر من مرةٍ في السماء حين أسقطت طائرة أميركية ما قيل إنه بالون تجسس صيني في فبراير/شباط الماضي، وعندما حلقت مقاتلة صينية طراز "جيه-16" أمام طائرة استطلاع أميركية طراز "آر سي 135" فوق بحر جنوب الصين في آخر مايو "آيار"، وكذلك على الأرض حين اقتربت سفينة حربية صينية لأقل من 150 مترًا فقط من مدمرة بحرية أميركية أثناء عبورها مضيق تايوان في أول الشهر نفسه.
غياب الرؤية الاستراتيجية، والاستغراق في حسابات تكتيكية صغيرة، هو إذن مكمن الخلل الراهن في العلاقات الأميركية-الصينية، والعائق الرئيسي أمام تفاهمات ممكنة بينهما تتجاوز العلاقات الثنائية والمصالح المشتركة إلى التأثير في مستقبل العالم.
يحولُ الاستغراق في حسابات تكتيكية صغيرة على هذا النحو دون طرق آفاق واسعة مفتوحة أمام الدولتين، ولكنها بعيدة عن نظر كل منهما لغياب الرؤية الاستراتيجية. يخشى صانعو القرار في واشنطن احتمال حدوث حسابات لوجستية خاطئة تؤدي إلى صدام، ويغفلون الحسابات السياسية الخاطئة ورهاناتها الخاسرة مُسبقًا. يراهنون على نجاح تحركاتهم في إبطاء تقدم الصين السريع إلى القمة، لكي تبقى واشنطن متقدمة عليها بخطوةٍ أو أكثر. وفي بكين حساباتُ خاطئة من هذا النوع أيضًا، إذ يراهن صانعو القرار فيها على ما يعتبرونه انحدارًا أميركيًا تدريجيًا يُمكَّنُها من اعتلاء القمة العالمية منفردة.
وهكذا تغرق الدولتان الآن في التكتيك على حساب الاستراتيجية أكثر من أي وقت مضى. ولا يخفى أن مدى النظر عند الغارق في التكتيك يكون قصيرًا، فلا يرى أن تجنب الحسابات اللوجستية الخاطئة ليس مضمونًا
وهكذا تغرق الدولتان الآن في التكتيك على حساب الاستراتيجية أكثر من أي وقت مضى. ولا يخفى أن مدى النظر عند الغارق في التكتيك يكون قصيرًا، فلا يرى أن تجنب الحسابات اللوجستية الخاطئة ليس مضمونًا، ولا يكفي لضمانه إبقاء خطوط اتصالٍ مفتوحة حتى إن أمكن فتحها على مصاريعها. فالغارق في التكتيك من دون استراتيجية تُوُجهُه يشبه أحيانًا من يعاني قصر نظر شديد ولا يريد تصحيحه أو الاستعانة بعدساتٍ تساعده لكي يرى ما لا يستطيعه.
وينطبق هذا على الولايات المتحدة بدرجةٍ أكبر وأكثر وضوحًا. خذ مثلاً سعيها الذي لا يكل إلى إبقاء خطوط اتصال مفتوحة تشمل القوات العسكرية، في الوقت الذي تفرض عقوباتٍ على وزير الدفاع الصيني لي شانغو بموجب قانون (مكافحة العداء للولايات المتحدة) المعروف اختصارًا بقانون كاتسا (CAATSA).
وليس منطقيًا أن تفرضَ عقوباتٍ على من تتطلع إلى التفاوض معه لفتح خطوط الاتصال على المستوى العسكري. ومفهوم، في مثل هذه الحال، أن ترفض بكين عقد اجتماع بين وزيري دفاع الدولتين قبل رفع تلك العقوبات، في الوقت الذي تتضارب تصريحات مسؤولين أميركيين كبار بشأن إمكان إلغائها.
وليس غريبًا، والحالُ هكذا، أن تكون خطوط الاتصال المتعلقة بتجنب وقوع أزمات أو احتوائها بشكلٍ فوري في أسوأ وضعٍ لها منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي. هذا طبيعي تمامًا في ضوء الحالة العامة للعلاقات الأميركية-الصينية اليوم. فعندما تُقفل الآفاق الواسعة المفتوحة أمام الدولتين للعمل معًا بفعل غياب الرؤية الاستراتيجية أو محدوديتها، ويتواضع أو يتضاءل الطموح إلى مستوى فتح خطوط اتصال استخباراتية وعسكرية وديبلوماسية، يصبح هذا الهدف الصغير نفسه غير مضمون، ويتوارى هدفُ كبيرُ يتطلب تحقيقه رؤيةً استراتيجيةً تنطوي على مرونةٍ واستعدادٍ لتقديم تنازلاتٍ متبادلة.