يزداد في الوقت الراهن إقدام فتيان وشبان يمنيين على نشر صور لقراهم، عمرانها، مدرجات حقولها الجبلية، وطبيعتها، على مواقع التواصل الاجتماعي. الأرجح أن عوامل عدة، تشي بها تعليقاتهم المدونة إلى جانب الصور، دفعتهم إلى ذلك: افتتانهم المستجد والمتزامن بفن التصوير، بصفاء نمط عيشهم القروي، وبجمال الطبيعة الجبلية. وهم يصورون بهواتفهم المحمولة، رفيقتهم أثناء رحلاتهم أفرادا ومجموعات، في تلك الطبيعة المحيطة بقراهم، ثم ينشرون الصور يوما بعد يوم على مواقع أنشأوها على "فيسبوك" و"إنستاغرام" وغيرهما من منصات التواصل الاجتماعي.
ربما يعود خلو صور الفتيان والشبان اليمنيين اليوم من مشاهد الحياة العامة في قراهم الجبلية، إلى انكماش تلك الحياة فيها، وتقشفها وضمورها وضآلتها أصلا. وهذا بسبب موجات الهجرة منها إلى المدن، وبقاء القرى على حالها
ملاحظات بصرية
يُلاحَظ أن تلك الصور، إضافة إلى كثرة من الفيديوهات، تكاد تخلو من مشاهد الحياة اليومية والاجتماعية في تلك القرى، إلا في ما ندر. وإذا كان تفسير هذه الظاهرة يحتاج إلى استقصاء ميداني، فإن إمعان النظر في الصور الكثيرة، والتفكر في ما توحي به أو تنطوي عليه بناءً على حدس سوسيولوجي، قد يتيحان بعض الانطباعات والأفكار:
مسائكم طيب كارواحكم وكاجواء جبل الاسلاف مديرية السلفية محافظة ريمة اليمن
- عزوف أهالي تلك القرى عن التقاط صور لهم ولمشاهد حياتهم اليومية وطقوسها. ولربما حملتهم على ذلك محافظة اجتماعية، قد تكون قديمة متوارثة، وانطوت تم انبعثت في صيغة جديدة.
- مصدر هذا الاحتمال ما عرفته مجتمعات عربية - إسلامية كثيرة من تحولات منذ سبعينات وثمانينات القرن العشرين: انبعات حركات الإسلام السياسي المتشددة التي لا تحبذ التصوير، وبعضها يحرّمه على الناس في العلانية العامة. وهذا في مقابل إطلاق تلك الحركات المتشدّدة العنان لتصوير نشاطاتها التعبوية وعراضاتها وحملات ترويعها وإعداماتها. ومثال ذلك تنظيم "داعش" في سوريا والعراق وليبيا، والسلفيون و"حزب الإصلاح" الإخواني والحوثيون في اليمن.
- ربما يعود خلو صور الفتيان والشبان اليمنيين اليوم من مشاهد الحياة العامة في قراهم الجبلية، إلى انكماش تلك الحياة فيها، وتقشفها وضمورها وضآلتها أصلا. وهذا بسبب موجات الهجرة منها إلى المدن، وبقاء القرى على حالها القديمة في العمران والعمارة ونمط العيش والعزلة، بعدما غادرتها أجيال بين العشرين والأربعين من العمر، طلبا للعيش والعمل والإقامة في المدن.
وقد يؤكد هذه الظاهرة اقتصارُ حضور العنصر البشري في الصور على فتيان لم تتجاوز أعمارهم العشرين، وبعضهم يدمن أو يحترف هواية التصوير وبث الصور على وسائط التواصل الاجتماعي.
الصور الكثيرة التي يلتقطها الفتيان، كلماتهم التي يدوّنونها معلّقين عليها ومعرّفين بها وبأماكن التقاطها، تشي بأن هوايتهم التصوير وإدمانه ينطويان على شغفهم بجمال الطبيعة، بنقاء العيش وبهائه في قراهم الجبلية.
ونشاطهم هذا يبدو أنه محور أساسي لوجودهم وحياتهم المتقشفة، الرضيّة والمشبعة به، والخالية من سواه. ربما إلى جانب ذهابهم إلى مدارس تعليم ضعيف أو بدائي في قراهم العزلاء.
وتؤكد الصور التي يلتقطونها أن قراهم تتصل بالعالم بواسطة شبكة الإنترنت والهواتف المحمولة، أكثر بما لا يقاس من اتصالها بواسطة شبكة المواصلات البدائية ووسائل النقل (السيارة) التي يقل حضورها في الصور.
الصور أجمل من الواقع
ينصبُّ شغف الفتيان الجمالي على الطبيعة. طبيعة بلادهم وقراهم التي يصورونها ويمجّدونها بعبارات قليلة يكتبونها إلى جانب الصور. وهي عبارات وجيزة غير إنشائية، متقشفة ومستلة من قاموس سائر يمجّد الله الخالق على عطاياه. وينطوي هذا التمجيد على "وطنية" محلية وبلدية ومناطقية موضوعها جمال الطبيعة والافتتان بها.
وقد يلاحظ متصفّح الصور أن افتتان الفتيان بجمال مشاهد الطبيعة ينطوي على تعويض نفسي عن فراغ حياتهم من نشاطات ومشاغل وهوايات وعلاقات وأهواء في العلانية العامة، سوى ولعهم بالتقاط الصور.
لذا لا بد للمرء أن يتساءل: كيف يمكن هؤلاء الفتيان أن يعيشوا ويصرفوا أوقاتهم، دون هواتفهم المحمولة التي أتاحت لهم هواية التصوير وتحميل الصور على الشبكة العنكبوتية؟ ويخال المرء أنهم لكانوا يكابدون وحشة وفراغا كبيرين لولا هاتين الوسيلتين. ولولاهما لما وُلد شغفهم بالتصوير والصور الذي منحهم لغة تعبيرية جديدة، يفقدون من دونها ما يملأون به الفراغ والوحشة في قراهم الجبلية الصامتة المعزولة عن العالم والتواصل والاتصال به. والأرجح أن افتتان الفتيان الجمالي بالطبيعة ولّدته الصور، وما كانوا ليعرفوه ويختبروه ويعيشوه قبل وصول الهاتف المحمول وشبكة الإنترنت إلى قراهم.
ومن الأمثلة التي تشي بأن الصور تؤطر الواقع، تعيد صناعته، وتمنحه حضورا وقوة مضاعفين، ما روته صبية كانت تلتقط بكاميرتها مشاهد لتنزه الناس على رصيف كورنيش بيروت البحري: حين اقتربت المصورة من امرأة تجرُّ طفلها وأعربت لها عن جماله، قالت لها المرأة إن جماله لا يقارن بذاك الذي في صوره المعلقة في منزلها.
عزلة الأسلاف والأحفاد
من فتيان الشغف اليمني بالتصوير، من يسمي نفسه وحسابه الفيسبوكي "يوسف الجبل". تتصدّر الحساب صورة للفتى يبدو فيها جالسا على مرتفع يطل على قريته. وهو يدوّن إلى جانب الصور التي يصورها وينشرها على حسابه: "عزلة الأسلاف، مديرية السلفية، محافظة ريمة غرب اليمن"، ويضيف عبارات قليلة تبين شغفه بالقرية وصورها.
و"عزلة الأسلاف" اسم قرية قد يكون وليد ثقافة صوفية قديمة في تلك القرية على المرتفع الجبلي الشاهق. ويمكن تخيل أن تصوف الأسلاف الطقوسي القديم وحلقاته في القرية، نظير تصوف فتيانها الأحفاد الجديد اليوم في انصرافهم الشغوف إلى تصوير الطبيعة. ففي اليوم الواحد ينشر "يوسف الجبل" عشرات الصور على فيسبوك. وهو دوّن إلى جانب إحداها: "أدرك تماما لو لفّيت (زرتُ) مدن العالم كله لن أجد الجمال والهدوء والراحة النفسية والطمأنينة كما في قريتي، قرية الجبل".
وتكثر على حساب الفتى فيديوهات تصور رحلاته وأقرانه الفتيان في الطبيعة الجبلية الساحرة، ومدرجاتها الزراعية الخلابة، تقلّبات الطقس، الضباب والغيوم والنور والظلال والمطر في مشاهد باهرة.
"يوسف الجبل" واحد من يمنيين كثيرين ينصرفون إلى هواية تصوير طبيعة بلادهم وإعلانهم شغفهم بها. عن أحدهم، بسام قايد عباس، ننقل ما كتبه بشيء من تصرف شكلي يسهّل قراءته: "في هذه الطبيعة الخلابة الساحرة، رغم بساطة البيوت المتواضعة كأصحابها، قد تكون الحياة قاسية. لكن القلوب تتآلف وتلين في حب الأماكن والهواء البارد ونسماته التي تنعش قلوبنا. هنا تمتزج أجمل صور الطبيعة بكفاح الناس الطيبين في أرضهم. ورغم ما نعايشه في طول البلاد وعرضها، الحياة هنا ممتعة وسمحة بأجوائها النقية".
تصنع المنظمة العسكرية الحوثية تصنع صورها وفيديوهاتها الحربية على مثال "صرختها" التي أطلقتها قبل سنوات، للقول إن الحرب مبدأ الحياة الدنيا ومنتهاها
الإعلام الحربي الحوثي
ما الذي يعايشه اليمنيون اليوم في طول بلادهم وعرضها؟
إنه ما تبثّ أخباره وصوره يوميا وسائل الإعلام. وكذلك الصور والفيديوهات التي تصنعها الجماعات والميليشيات اليمنية المتحاربة. والأكيد أن أشدّها وجدا صوفيا بالحرب تلك التي يصنعها "الإعلام الحربي" للجماعة الحوثية، ويبثها على منصات التواصل الاجتماعي.
والمنظمة العسكرية الحوثية تصنع صورها وفيديوهاتها الحربية على مثال "صرختها" التي أطلقتها قبل سنوات، للقول إن الحرب مبدأ الحياة الدنيا ومنتهاها. لذا جعلت من تصوير حشود مواليها وجمهورها، وعراضات ميليشياها المصورة في استديوهات على مثال أفلام ألعاب الفيديو الشمشونية أو السوبرمانية، نشاطا أساسيا لها يوازي عملها العسكري، يضاهيه وربما يتقدم عليه.
وبدل شخصيات الأفلام اللاهية الموجهة للأطفال والمراهقين، يصور "الإعلام الحربي" الحوثي فيديوهاته ويوجهها لأنصاره قائلا لهم فيها إن العالم والحياة معسكرات بشرية لعبادة القوة والحرب والقتل والموت. والفيديوهات هذه هدفها بعث شغف ووجد صوفيين بالحرب في صدور أولئك الأنصار، إخافة أعدائهم وترويعهم. أي العالم كله، سوى من يسميهم مثال الحركة الحوثية وملهمِها (حزب الله في لبنان) "أشرف الناس" و"سادة الوجود".
المثال الملهِم وتلميذه الحوثي يصوران الناس بوصفهم مخلوقات آلية ولدت لتعيش في معسكرات وثكنات واستديوهات تصوير معارك، وفي عراضات عسكرية مشهدية مصورة في ساحات عامة، لتوهم مشاهديها أن الحياة في الصور الحربية هي وحدها الحياة الفعلية والحقة والجديرة بالعيش. أما سواها - أي الواقع والسعي والعمل وتحصيل المعاش - فليست إلا من النوافل والترهات. وهي في أحسن الأحوال (الحياة العادية) شأن النساء والأطفال، لا الرجال الرجال الذين يمجدهم "الإعلام الحربي" الحوثي وملهِمه الذي نصب في أحد شوارع بيروت صورة عملاقة لقادته الشهداء (اللبنانيان عماد مغنية ومصطفى بدر الدين، العراقي أبو جعفر المهندس، والإيراني قاسم سليماني) وكتب في أعلاها: "دام رعبكم".
— محفوظ على العواضي Mahfouz Ali Al-Awadi (@AbuAliAlAwadi) May 23, 2023
اجتثات البهائيين
من آخر المبتكرات الحوثية حملة أمنية لاجتثاث الأقلية البهائية في صنعاء، لا لشيء سوى لأنهم غير حوثيين. فنهار الخميس 25 مايو/ أيار 2023 "اعتقلت الميليشيا الحوثية 17 شخصا بينهم 5 نساء من البهائيين في صنعاء، بعد دهمها منازلهم ومصادرتها ممتلكاتهم".
وهذا حسب تقرير كتبه من عدن محمد ناصر وعلي ربيع في صحيفة "الشرق الأوسط" (27 مايو/ أيار 2023). وأضاف التقرير أن هذه الحملة تزامنت مع "محاكمة 24 شخصا من البهائيين، لأنهم يمارسون شعائرهم الدينية الخاصة. وبعد سنوات من الاعتقال والتعذيب، نفت الجماعة الحوثية في 30 يوليو/ تموز 2020 ستة من البهائيين" للسبب المذكور. أما غايتها من هذا كله فهو "إجبار من تبقى من البهائيين في صنعاء على الهجرة ومحو أثرهم ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، وحتى مقابرهم".
أخيرا، هل من صلة بين فتيان هواية الشغف الجمالي شبه الصوفي بالطبيعة وشغف الجماعة الحوثية بالحرب؟
الأرجح أن شغف الفتيان اليمنيين ينطوي على احتجاج مسالم ومن طبيعة جمالية إنسانية على صناعة الحياة وصورها على طريقة التصوف الحربي الحوثي المستميت والمميت. كأن فتيان التصوف الجمالي للطبيعة يدفعون عنهم بفن التصوير ذلك النفير الحربي الذي جعله الحوثيون مدارا وحيدا لحياة اليمن واليمنيين.