كناوة 2023: العودة إلى مدينة الرياحhttps://www.majalla.com/node/294026/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%83%D9%86%D8%A7%D9%88%D8%A9-2023-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%AD
الرباط: منذ تأسيسه عام 1998، رسّخ مهرجان كناوة وموسيقى العالم، الذي تحتضنه سنويا مدينة الصويرة المغربية، حضوره من بين أهم المواعيد الفنية والثقافية على الصعيدين الوطني والقاري. فمن خلال برمجة فنية دقيقة ومتجانسة ومتاحة للجميع مجانا، يجذب هذا الحدث الموسيقي آلاف الزوار من مختلف بقاع العالم، إضافة الى حضور عدد هائل من الفنانين والمثقفين. وبفضل فلسفته الأصيلة وروح المشاركة والاكتشاف التي تميزه، يشكل هذا المهرجان تجربة فنية وروحية متفردة، بعد أن تقررت عودته أخيـرا إلـى صيغتـه وشـكله الاعتياديين، في دورته الرابعة والعشرين من 22 إلى 25 يونيو/ حزيران الجاري، بعـد غيـاب اضطـراري لعامين بسـبب جائحة كوفيد19، يعود إلــى حضنه ومنشئه الطبيعــي (الصويــرة)، بعــد تجربة استثنائية خلال العام الماضي، توزعت فيها أنشطته بين عدد من المدن المغربية الأخرى، احتفاء بالقرار التاريخي لمنظمة اليونسكو التي صنفت فن كناوة ضمن قائمة "التراث الثقافي غير المادي للإنسانية"، خلال الدورة 14 للجنة الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي، التي احتضنها العاصمة الكولومبية، بوغوتا، في ديسمبر/ كانون الأول 2019.
هذا الفن ابتكره في الأصل مجموعات وأفراد من العبيد والرقيق، يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر، وصار اليوم جزءا من الهوية الثقافية المغربية
استحضار الأجداد
يشير مصطلح "كناوة" إلى مجموعة من الأعمال الموسيقية والعروض والممارسات الأخوية والطقوس العلاجية يختلط فيها الدنيويّ بالمقدس. إن كناوة قبل كل شيء هي موسيقى أخوية صوفية مرتبطة عموما بكلمات ذات طابع ديني، تستحضر الأجداد والأرواح. والواقع أن هذا الفن ابتكره في الأصل مجموعات وأفراد من العبيد والرقيق، يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر، وصار اليوم جزءا من الهوية الثقافية المغربية. كما يمارس "معلمو" كناوة، وخاصة في المدينة، طقوسا علاجية تقام خلال سهرات خاصة تمتزج فيها ممارسات الأجداد الأفريقية بالتأثيرات العربية الإسلامية والمظاهر الثقافية البربرية الأصلية. أما في البادية، فتنظم جلسات جماعية في بعض الزوايا الصوفية وأضرحة الأولياء. وحسب المؤرخين، يعود تاريخ فن كناوة إلى القرن الـ 16، عندما استقدم أحد سلاطين المغرب العبيد وأسرى الحرب، فانتشروا في البلاد وأسلموا، وتزوجوا بمغربيات واستقروا بصفة نهائية، إلا أن بعضا منهم عبَّر عن حنينه إلى أرض أجداده عن طريق الغناء، فظهرت موسيقى "كناوة"، وهي عبارة عن خليط موسيقي أفريقي يجمع بين إيقاعات السودان والسنغال وأرض مالي، وتحديدا العاصمة تمبكتو، التي يؤكد معظم "الكناويين" أنها أصل هذا اللون الموسيقي الفريد ومنشؤه، بالإضافة إلى استعانتها بآلات الموسيقية التقليدية المتمثلة في "الكنبري" و"القراقب النحاسية" و"البانغو" الوتري، بالإضافة إلى حركات رقص أفريقية سريعة بأزياء مزركشة.
عودة لأبرز لحظات فعاليات افتتاح مهرجان كناوة وموسيقى العالم بعد سنتين من التوقف. pic.twitter.com/jA7fJLOcKt
— MJCC وزارة الشباب والثقافة والتواصل (@mjcc_gov) June 4, 2022
شعبية استثنائية
لقد اكتسبت موسيقى كناوة، عند نهاية القرن العشرين، شعبية غير عادية ضمن المشهد الغني والمتنوع "لموسيقى العالم"، رغم أنها ظلت طيلة قرون موسيقى هامشية تمارسها مجموعات صغيرة خلال مناسبات متفرقة، تكون في الغالب ذات طابع ديني صوفي أو طقوسي احتفالي. لكن ما قام به مهرجان الصويرة، طيلة ربع قرن تقريبا، يمكن اعتباره ثورة حقيقية، إذ ارتقى بهذا الفن المحلي، ذي النكهة المغربية الأفريقية، إلى معانقة العالمية من أوسع الأبواب. يكفي أي زائر مشاهدة هذا العدد الغفير من السياح وهواة الموسيقى، القادمين من مختلف أنحاء البلاد أو بقاع العالم، يرقصون و"يجذبون" وينتشون على إيقاعات كناوة، في الشوارع والساحات على مدى ليال متتالية، مثل أسراب من النحل تبحث عن عسل "روحاني". ذلك لأن لدى فناني و"معلمي" كناوة كل الشروط والتوابل لإغواء وإبهار من يقابلهم أول مرة، من الأنغام والألحان والكلمات إلى الرقص واللباس الفريد بإكسسواراته الجميلة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن اكتشاف هؤلاء الموسيقيين من قبل النخب الثقافية الغربية ليس بالأمر الجديد. فمنذ ثلاثينات القرن الماضي، زار الكاتب والملحن الأميركي بول باولز المغرب، وحضر بعضا من طقوس كناوة. ثم بعد عشرين عاما، حين استقر في طنجة بشكل نهائي حتى وفاته، بدأ في تسجيل الموسيقى المغربية التقليدية لحساب مكتبة الكونغرس بواشنطن. وعلى الرغم من أن الموسيقى التي اهتم بها أكثر هي موسيقى الأمازيغ، إلا أنه سرعان ما انتبه إلى أهمية تسجيل موسيقى كناوة وتوثيقها. ولا ننسى أيضا أنه، بمشاركة مع صديقيه الرسام والشاعر بريون جيسين وعازف البيانو راندي ويستون، استدعى موسيقيين كناويين للعزف في نوادي الجاز بطنجة، حيث عرضت هذه الموسيقى لأول مرة خارج سياق طقوسها التقليدية.
أما في أواخر الستينات، فقد توافد العديد من الموسيقيين والهيبيين إلى المغرب، من بينهم المغني الأميركي الشهير جيمي هندريكس. الذي زار المغرب في عام 1969، قبل وفاته ببضعة أشهر، وأقام في ميرلفت (بالقرب من أغادير) ثم في الصويرة. وهناك عزف مع فرقة كناوية، وأسرته كثيرًا هذه الموسيقى، لدرجة شرع في الترتيب لشراء منزل، حيث كان ينوي الاستقرار بهذه المدينة. لكن هذاالمشروع أجهض بسبب وفاته المبكرة، وصار الآن جزءا من أسطورة كناوة.
ما قام به مهرجان الصويرة، طيلة ربع قرن تقريبا، يمكن اعتباره ثورة حقيقية، إذ ارتقى بهذا الفن المحلي، ذي النكهة المغربية الأفريقية، إلى معانقة العالمية من أوسع الأبواب
موسيقى العالم
يعتزم مهرجان كناوة وموسيقى العالم بالصويرة الاحتفاء، من جديد، بغنى وتنوع موسيقى كناوة وكذا بأنماط موسيقية عالمية أخرى. حيث ستمتزج نغمات الكنبري والقراقب المميزين بنبرات موسيقى الجاز بكل تلاوينه وتفرعاته، وبالفلامينكو والريكي والسالسا، وتنصهر مع إيقاعات الطوارق والتاميل، عبر أزيد من 40 حفلا موسيقيا موزعا على مختلف أرجاء الصويرة. سيكون محبو المهرجان، إذن، على موعد مع حفلات مميزة تُسْتَهَل بحفل افتتاح استثنائي سيجمع كل من فرقة طبول بوراندي اماكابا وعازف الساكسفون الأميركي جليل الشاو والفنانة المغربية سناء مرحاتي والمعلمين محمد وسعيد كويو.
كذلك، جعــل منظمــو المهرجــان مــن إفريقيــا محــورا لبرامجــه وفــي قلــب فعالياتــه، خصوصا وأن مدينــة الصويــرة، مهــد موســيقى كنــاوة، تفتخــر بجذورهــا الإفريقية الممتـدة والمتأصلـة. وكمـا جـرت العـادة، سـيحتفى مجـددا بالقـارة السـمراء مـن السنغال إلـى مالـي مـرورا بدولـة بورونـدي، عبـر إيقاعاتهـا المميـزة ونغماتهـا المثيـرة، والتـي سـتتمازج مـع "جذبـات" كنـاوة السـاحرة، وبحضـور أمهـر العازفيـن والفنانيــن العالمييــن الذيــن ســيحجون مــن كل مــن الولايــات المتحــدة الأميركية وكوبـا وباكسـتان وفرنسـا وبلجيـكا وألمانيـا، في خلطـة فنيـة واعدة بلحظـات مـن النشـوة والارتجــال الموســيقي الخــلاق.ومن المؤكد أنه مع توالي دورات المهرجان، أضحت مدينة الرياح (الصويرة) بمثابة وودستوك المغرب. فهنا يتسيّد "المعلمون" الكناويون الفضاءات والخشبات، في تلاقح مع إيقاعات العالم الأخرى، مثل الموسيقى الإفريقية، والجاز اللاتيني، والموسيقى الصوفية، والروك الإلكتروني، والموسيقى الأفرو-كوبية...وغيرها.
من جهة أخرى، سيكون المهرجان أيضا فرصة للتداول والحوار الجدي والعميق المنظم في إطار المنتدى الفكري الذي يعقد بالموازاة مع الحدث، والذي ستتمحور ثيمته الأساسية هذه السنة حول "الهويات المتعددة وسؤال الانتماء". وهو موضوع يفرض نفسه بقوة في عالم تتقاذفه توترات هوياتية عميقة، ويطغى عليه شعور متفاقم برفض الآخر، من خلال نقاشات سيخوض فيها فنانون ومفكرون وسياسيون من مختلف الآفاق والبلدان. كما سيسهر المهرجان على تنظيم ورشات موسيقية لفائدة الشباب والكبار بهدف مصاحبتهم للاطلاع على هذا التراث الكناوي العريق، واكتشاف موسيقاه والعوالم المرتبطة به من تاريخ وأدوات وإيقاعات. باعتباره فرصة فريدة سانحة أمام الزوار الأجانب للانغماس في الثقافة المغربية المتعددة الروافد، ومعرفة المزيد عن الإرث الموسيقي الغني للبلاد.