الموسيقى في السعودية: جهد جماعي نحو المستقبلhttps://www.majalla.com/node/294021/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%8A%D9%82%D9%89-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%AC%D9%87%D8%AF-%D8%AC%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D9%86%D8%AD%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84
يبدو أن الموسيقى في السعودية قطعت شوطا كبيرا، ينسجم مع الحضور التاريخي للأغنية، وفي الوقت نفسه يمضي بها نحو آفاق جديدة، وذلك بعد مرور أقلّ من سنتين على صدور قرار يسمح للمعاهد الخاصة في المملكة العربية السعودية بتدريس الموسيقى، واعتماد حصة موسيقية إلزامية في المدارس، وأخرى اختيارية في الجامعات، وانفتاح المسارح السعودية على استقبال فنّانين عرب وعالميين في مهرجانات موسيقية ضخمة، وتحفيز المواهب السعودية على الموسيقى والاحتراف في مجالاتها.
تفاعلات جديدة
فبعيدا من ظاهرة الفنان الأوحد كممثّل لتراث كامل، أصبحت الفرق الموسيقية المنظّمة من خلال هيئتي الترفيه (تأسست في 2016) والموسيقى (تأسست في 2020) الواجهة الأكثر تمثيلا لرحلة الموسيقى الطويلة في السعودية، التي بات لها معنى عام مشترك، فيه انصهار الهوية السعودية ورحلتها، ضمن فرق تُعنى بتهيئة التراث الغنائي الموسيقي وترتيبه، وإنتاجه عبر تفاعلات جديدة، بما فيها موسيقى الأوبرا، وضمن أبرز المهرجانات العالمية، كالمشاركة في حفل المركز الثقافي الفرنسي الذي نظّمته هيئة الموسيقى في قاعة "دو شاتليه" بالعاصمة الفرنسية باريس، تحت مسمى "روائع الموسيقى السعودية" عام 2022، أو الحفل الذي نظّمته منذ أيام قليلة في المكسيك.
أصبحت الفرق الموسيقية المنظّمة الواجهة الأكثر تمثيلا لرحلة الموسيقى الطويلة في السعودية، التي بات لها معنى عام مشترك، فيه انصهار الهوية السعودية ورحلتها، ضمن فرق تُعنى بتهيئة التراث الغنائي الموسيقي وترتيبه، وإنتاجه عبر تفاعلات جديدة
المهرجانات السنوية التي تقودها فرق سعودية بالكامل هي الدلالة الأكثر تجليا لتلقّي الموسيقى وفهمها وتعميمها اجتماعيا، وجعلها مدار قيمة ثقافية وهوياتيّة. فعلى الرغم من القيمة الفردية لفنانين سعوديين أسسوا منذ خمسينات القرن الماضي تقاليد سعودية خاصة، وإنشاء متحف لشخصية موسيقية مؤسسة هو طارق عبد الحكيم في جدة عام 2020، يتضمن مركزا بحثيا موسيقيا مفتوحا دائما، كنواة تاريخية للبحث والتأليف في مجال تاريخ الموسيقى والأغنية السعودية. وإطلاق اسم طلال مداح (1940-2000) على أحد أكبر المسارح الفنية في البلاد (مسرح المفتاحة)، إلا أن مشروع التحديث السعودي الشامل، يعيد إنتاج البدايات ويمنحها زخما متجددا من خلال الاحتفاليات العامة والمهرجانات الداخلية في المدن، والمشاركة في مهرجانات ثقافية عالمية، كجزء تأسيسي من الصلة بين ماضٍ موارب لم يُحتفَ به بالقدر الكافي، وبين مستقبلٍ تكون فيه السعودية محطّة لعرض المنتجات الفنية العربية والعالمية، ورائدة في إنتاجها وإنتاج مواهبها أيضا.
فضاء روحي
في الأصل تدور الموسيقى في الفضاء الروحي، وهي لم تكن غائبة عن المملكة العربية السعودية ولا عن المنطقة منذ نحو مائة وعشرين عاما حسب الوثائق، بيد أن الفارق اليوم قائم في جعل الموسيقى، والفنون عموما، جزءا من الهوية الثقافية المستقبلية.
بين عامي 1903 و1905، كانت الأسطوانة الأولى التي سُجلت عبر القنصلية الهولندية في السعودية، لأصوات ترنّم أغاني تصاحب طقس الحج، وأصوات ترنّم جماعيا أغاني تبدو مرتبطة بالطقس الاجتماعي. مرحلة الخمسينات كان رائدها طارق عبد الحكيم (1912-2012) الذي درس الموسيقى واستحضرها تلحينا بروح الذاكرة الخاصة، وهو المزارع الذي حفظ الأغاني وخَبِر أنماطها عبر حياته مع المزارعين، وعبر أسلافه الذين كانوا يغنّون قبله، وانطلق في منحة أميرية إلى مصر لدراسة الموسيقى، ثم تثبيت الأغنية السعودية لحنا وكلمة عبر مغنين عرب مصريين، ولبنانيين وسوريين. العسكري المؤسس للموسيقى العسكرية والقومية السعودية، كان ممثّلا لشكل هوياتي أولا، ولتأسيس بنية توثيقية للتراث السعودي الغنائي - الذي يكون فيه الشعر والتلحين القولي الشفاهي جزءا لا يتجزأ منه، بوصف الشعر والقول والإيقاع هو الطقس الذي على الموسيقى احتواؤه والتناغم معه، ونقل عبد الحكيم الأغنية إلى حالة موسيقية في لحن أكثر تطورا، هذا ما لم نتحدّث عن توثيقه وتكريسه للأغنية السعودية في الصوت العربي عموما. كانت ألحان طارق عبد الحكيم كلها نتاج روح تأمّلية وإحساس شعوري ملتصق بالهوية و بتراث المنطقة، وصولا إلى مرحلة السبعينات التي استطاع فيها طلال مداح مثلا الغناء بطلاقة هائلة، وافتتن العرب بإنتاج ثلاثة كوبليهات في ألحان أغانيه التي كتبها، والأغاني التي غنّاها ولحنها. طارق عبد الحكيم، طلال مداح، ومحمد عبده حافظوا بشكل هائل على الحالة الروحية للطرب السعودي والعربي عموما، الطرب المرتبط بشعور الاكتفاء الروحي، بالشعرية واللحن المُغنى بوصفه تأملا داخليا، ورحلة ذاتية خاصة من خلال تهيئة اللحن لحالات شعورية تدريجية، أي هوية متنقّلة للشعور الإنساني.
ينشغل الاندفاع السعودي الراهن نحو الموسيقى بصنع معالم للحاضر والمستقبل، دون الوقوف أمام عوائق تقليدية، كسؤال الأصالة والحداثة، أي تاريخ الأغنية السعودية وحاضرها، وتاريخ الأغنية والموسيقى العربية عموماً وحاضرها، بل تندفع هذه الجهود بأشكال متوازنة
هوية متناغمة
الخروج من الروحية التأملية إلى الموسيقى، جعل الموسيقى السعودية ذات هوية متناغمة المعنى وذات طابع فريد. لقد حافظت هذه الهوية على نموذج موسيقي يحمل تردّدات متنوّعة، وتُدرج الشعور والنص المُغنّى ضمن آلية فيها من الحياة والصمت والزمن والفرح والانفعال ما يبدو حالة مختلفة. وذلك في ظل سيطرة الأغنية ذات الكلمات البسيطة واليومية، التي لا تملك شعرية بقدر ما تملك موقفا وتعبيرا عن لحظة يومية.
وصولاً إلى القرن الجديد بدت الهوية السعودية في الموسيقى ضمن عالمين: العالم الأقرب الى الروح في الألحان الطويلة بكوبليهات متنوعة وقوية ومؤثرة، معاكسة لعالم السرعة، طول الأوكتاف والجملة الموسيقية، الأثر الهائل الجميل للحالات الشعورية وارتباط اللحن بمنهجية شعرية تُنتقى من معنى مرتبط باللغة وطبيعة اللحن، ما يحتاج استجابة نوعية وتعميقا للحن والكلمة معا، والعالم الحديث الذي احتوت فيه شركات سعودية إنتاجاً لأغانٍ معاصرة وأغاني الهوية السعودية التقليدية، ومحاولة دفع السعوديين نحو الإنتاج والإبداع الموسيقي.
ينشغل الاندفاع السعودي الراهن نحو الموسيقى بصنع معالم للحاضر والمستقبل، ضمن أكثر من شك، دون الوقوف أمام عوائق تقليدية، كسؤال الأصالة والحداثة، أي تاريخ الأغنية السعودية وحاضرها، وتاريخ الأغنية والموسيقى العربية عموما وحاضرها، بل تندفع هذه الجهود بأشكال متوازنة بين احتواء الحالة الفنية العربية والاحتفاء بها ونجومها داخل السعودية، كأن الدَّين يُردّ هنا، فبعدما كانت مصر التي لجأ إليها طارق عبد الحكيم وطلال مداح مركزا لاستيعاب الحالة الفنية وإطلاقها، باتت السعودية مركزا جديدا، فيه البنية التحتية المتينة والمنفتحة والقدرة على الاستجابة لمتطلبات الإمتاع الجمالي، وفيه أيضا الافادة من المواهب السعودية التي عاشت لوقت طويل وهي تنتظر هذه الدافعية الحكومية والانفتاح الاجتماعي والثقافي. انعكست ثمرة هذا الانفتاح في تخفيف زمن التوتر بالنسبة إلى آلاف المواهب السعودية، التي اندرجت في حركة قياسية داخل المعاهد الخاصة. بعض المعاهد حقق نتائج مذهلة، كتخريج أوّلي لأربعمئة طالب سنويا في جدة، أو حتى الاستجابة لحضور المهرجانات والاحتفالات داخل المدن، شيء من هذا هو انجذاب للجمالي والفني، ولو اختلفت معايير القياس والجمالية بين أجيال مختلفة أو أشكال مختلفة من التعبير الفني. ما بدا في الشاعرية خفيا لوقت طويل، وفي القدرة على إنتاج معنى سيكون ظاهرا في السعودية بعد حين، ذلك أن الانجذاب لكل هذا الامتاع الجمالي سينشئ حاضرا ومستقبلا نابعين من ذاكرة كانت تعاني من خروجها نحو العموم، سواء في الموسيقى أو الشعر الذي نُغِمَ في الصوت والوزن وسينتقل إلى رحاب الموسيقى لترفع وتُعمّق من شأنه. سيكون السؤال ليس في وصول الفنانين العرب ورَدّ الدَّين الى المكان الذي لجأ أصحابه لوقت طويل إلى الدول العربية لإشهار أغانيهم.
الفرص أكثر اتساعا لجيل سعودي ينخرط في بداية الحكاية عبر الجانب المعرفي من البحث الموسيقي، وممارسة الموهبة التي تبدو حاضرة بقوة من خلال نجاح المهرجانات، خاصة المهرجانات الداخلية، والاستجابة لها داخل المدن السعودية
استجابة
خلال المرحلة الأخيرة من عملية التحديث في السعودية يشاهد ببساطة كيف يكون الأثر الموسيقي على مجتمع كامل، الاستجابة للتفاعل في الموسيقى، من خلال آلاف الشابات والشبان، والأطفال والأسر السعودية عموما وهي تتناغم وتملك ذاكرة فنية رفيعة المستوى، سيكون حتى لبُناة الأغنية السعودية والمتفاعلين معها ظهور جديد. فالأفراد المُنشئون للثقافة الموسيقية الغنائية السعودية استطاعوا بناء الأغنية واللحن في ظروف شديدة الخصوصية، لكنهم نجحوا بنيويا في التعبير عن ثقافة موسيقية عامة، فيها من الهوية والقول والشعر ما سيكون حاضرا أبدا. أما اليوم فالفرص أكثر اتساعا لجيل سعودي ينخرط في بداية الحكاية عبر الجانب المعرفي من البحث الموسيقي، وممارسة الموهبة التي تبدو حاضرة بقوة من خلال نجاح المهرجانات، خاصة المهرجانات الداخلية، والاستجابة لها داخل المدن السعودية.
بعيدا من النظر إلى الخلف، هناك مستقبل يراهن عليه، في نقلة ثقافية تلجأ إليها السعودية، لتحفيز البُعد النشط والموهوب لدى الشباب للالتصاق بحالة بعيدة عن الاستهلاك المادي. أما الجانب التعليمي والتقني فستكون جدواه سريعة أيضا.