هكذا وحّدت الموسيقى العرب والأتراك في زمن أتاتوركhttps://www.majalla.com/node/294016/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%87%D9%83%D8%B0%D8%A7-%D9%88%D8%AD%D9%91%D8%AF%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%8A%D9%82%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%83-%D9%81%D9%8A-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%AA%D8%A7%D8%AA%D9%88%D8%B1%D9%83
في صبيحة يوم الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1934 استيقظ الأتراك على وقع خبر صادم، يفيد بأن وزير الداخلية شكري كايا أصدر تعميما بمنع بث الموسيقى الشرقية في برامج الإذاعات التركية تماما، وبدلا منها إذاعة المقطوعات الموسيقية التي تُعزف على الطراز الغربي فقط. فما كان من الجمهور التركي إلا أن وجه لواقط أجهزة الراديو نحو الإذاعات العربية، وخصوصا المصرية منها، وأصبح كل من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، منذ ذلك اليوم، نجمي الغناء الأكثر شعبية عند الجمهور التركي. هذه هي الأطروحة الرئيسة في كتاب الباحث والأكاديمي التركي مراد أوزيلدريم، "وحدة الموسيقى العربية والتركية في القرن العشرين"، الصادر هذه الأيام بترجمة عربية لملاك دينيز أوزدمير وأحمد زكريا، عن مشروع "كلمة" للترجمة.
انطلق الهجوم على الموسيقى الشرقية التركية من ذريعة أنها موسيقى خمارات، وأنها ليست موسيقى تركية خالصة، بل هي خليط من الموسيقى البيزنطية والفارسية والعربية، ولذلك كان لا بد من مغادرة هذا الإرث إذا أرادت الجمهورية الناشئة مواكبة مسيرة التحديث، حتى لو أحبها الأتراك
موسيقى خمارات!
هذا القرار الذي يبدو للوهلة الأولى غريبا، لم يكن سوى محصلة جدال سياسي- مجتمعي بدأ مع إعلان الجمهورية التركية في العام 1923، حيث نشأت حركات تحديث مختلفة التوجهات، هدفها تحويل الدولة والمواطنين من شرقين إلى أوروبيين. وعلى الرغم من أن قرارات راديكالية أخرى، مثل تغيير حرف الكتابة من العربية إلى اللاتينية، وتغيير الملابس من شرقية إلى غربية، مرت بسهولة نوعا ما، فإن الموسيقى بقيت حجر عثرة في وجه هذا الطموح، نظرا الى تعقيد الموضوع، وعدم وضوح الفكرة في أذهان مثقفي التغريب الأتراك آنذاك، فبدأوا عملية تجريب عبثي قادت إلى نتائج معاكسة لم يكن يرغب أي منهم في حدوثها.
انطلق الهجوم على الموسيقى الشرقية التركية من ذريعة أنها موسيقى خمارات، وأنها ليست موسيقى تركية خالصة، بل هي خليط من الموسيقى البيزنطية والفارسية والعربية، ولذلك كان لا بد من مغادرة هذا الإرث إذا أرادت الجمهورية الناشئة مواكبة مسيرة التحديث، حتى لو أحبها الأتراك.
وقد كُرّست هذه الفكرة في كتاب "مبادئ القومية التركية" الصادر عام 1923 للمنظِّر القومي ضياء جوق ألب حيث يقول: "نحن اليوم أمام ثلاثة أنواع من الموسيقى: الموسيقى الشرقية، والموسيقى الغربية، والموسيقى الشعبية. أي من هذه الأنواع هو الوطني بالنسبة لنا؟ لقد رأينا أن الموسيقى الشرقية مريضة وغير وطنية، وبما أن الموسيقى الشعبية هي موسيقى ثقافتنا، والموسيقى الغربية هي موسيقى حضارتنا الجديدة، فكلتاهما ليست غريبة علينا. في هذه الحالة، ستولد موسيقانا الوطنية من مزج الموسيقى الشعبية في بلادنا بالموسيقى الغربية".
نتيجة لحالة الاستقطاب هذه، أمر وزير المعارف مصطفى نجاتي بك في 29 ديسمبر/كانون الأول 1926بإغلاق قسم تعليم الموسيقى الشرقية في "دار الألحان"، وهو المعهد الموسيقي في ذلك الوقت، والاقتصار فقط على تعليم الموسيقى الغربية. والهدف كما هو واضح بعيد المدى، تنشئة الأجيال على الموسيقى الغربية.
منيرة المهدية ونصيحة أتاتورك
بحسب الباحث مراد أوزيلدريم، فإن الواقعة الأبرز على صعيد حسم الجدال المجتمعي والسياسي حول الموسيقى الشرقية، كانت خلال حفل موسيقي شهير في إسطنبول ليلة 9 أغسطس/ آب 1928.
كان مصطفى كمال أتاتورك قد دعي إلى حفل موسيقي في سرايا بورنو تشارك فيه المطربة المصرية الشهيرة منيرة المهدية، بالإضافة إلى فرقة تركية، وفرقة أجنبية تقدم موسيقى الجاز.
قدَّمت الفنانة المصرية تحية احترام إلى أتاتورك، ثم بدأت تغني تشكيلة من أغانيها الشهيرة، من بينها أغنية كان أتاتورك يحب الاستماع إليها عندما كان في دمشق بين عامي 1905و1906. الأكثر إثارة للاهتمام، أنها غنَّت قصيدة تمدح أتاتورك من بدايتها إلى نهايتها، تلقَّت بسببها تصفيقا حماسيا من الجمهور. بعد الحفل دعا مصطفى كمال باشا منيرة المهدية ونصحها بتعلُّم الموسيقى الغربية قائلا: "بهذا الصوت يستمع إليكِ العالم كلُّه، فلتكن شهرتُكِ كاملة".
ويقول الصحافي والكاتب التركي الشهير فالح رفقي، أحد شهود تلك الليلة، إن الناس في سرايا بورنو كانوا مبتهجين للغاية، مما زاد من سعادة أتاتورك. ويدّعي رفقي أن الموسيقى العربية هي التي أفسدت الحالة المزاجية في تلك الليلة قائلا: "كانت ألحان الموسيقى العربية المُبكية تفسد المزاج"، وهذا يعني أن منبع البهجة كان موسيقى الجاز!
خلال هذا الحفل ألقى أتاتورك كلمة تناقلتها الصحف التركية، قال فيها إن الأبجدية التركية لا ينبغي أن تكون هي نفسها الأبجدية العربية، وإن الموسيقى التركية ليست هذه التي استمعوا إليها قبل قليل، في إشارة إلى منيرة المهدية. يقول أتاتورك: "الليلة، بالمصادفة، استمعتُ إلى أكثر الفرق الموسيقية تميُّزا في الشرق خاصة، منيرة المهدية هانم، التي اعتلت المسرح أولا، كانت ناجحة في فنها، لكن بالنسبة لشعوري التركي، فإن هذه الموسيقى البسيطة لا تكفي لإرضاء الروح والشعور التركيين، وقد استمعت الآن أيضا إلى موسيقى العالم المتحضر (يقصد فرقة موسيقى الجاز)، إن الشعب الذي بدا خاملا حتى هذه اللحظة أمام ما يسمى بالموسيقى الشرقية، تحرَّك على الفور. إنهم جميعا يرقصون بروح مرحة. وهذا طبيعي للغاية. إنهم مبتهجون وسعداء حقّا، وإذا لم تلحظ الطبيعة الجميلة لهذا الشعب، فهذا ليس خطأه. الإجراءات القاصرة لها عواقب مؤلمة وكارثية، ولذلك صارت الأمة التركية حزينة. لكن الأمة صحَّحت الآن أخطاءها بالدم، وهي مستريحة الآن، والشعب التركي سعيد، وعلى سجيته، أصبح الشعب التركي سعيدا الآن".
نتيجة لهذا العبث النخبوي، توجه عموم الأتراك نحو الموسيقى العربية، فأصبحت الإذاعة الوطنية المصرية، مقصد المستمعين الأتراك، بما كانت تقدمه من أشهر الأسماء، مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد وغيرهم من الأصوات العربية المشهورة
ثورة موسيقية
شجعت كلمة أتاتورك الأقلام الداعية إلى منع الموسيقى الشرقية، فانبرت تتفنّن في عرض المنعكسات السلبية لهذه الموسيقى على روح الأمة الناهضة، وبعد سنوات قليلة حدّد أتاتورك ما يريد بالضبط من "ثورته الموسيقية"، وذلك في مقابلة مع مجلة "فوس" الألمانية عام 1930، فحين سأله الصحافي الشهير إميل لودفيغ عن رؤيته لتحسين الموسيقى التركية، قال أتاتورك: "كم من الوقت احتاجت الموسيقى الغربية لتصبح على ما هي عليه اليوم؟". أجابه الصحافي: "أربعمئة عام "، فرد عليه أتاتورك قائلا: "ليس لدينا وقت للانتظار كلَّ هذا. لذلك قررنا أن نأخذ الموسيقى الغربية".
لكن الكلمة الأخرى التي حسمت الجدال، وصارت تركيا بعدها كما لم تكن قبلها، هي تلك التي ألقاها الزعيم أتاتورك في مجلس الأمة التركي يوم 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1934، حين قال: "أصدقائي، أعرف أنكم تريدون ترقية شباب الوطن في كل الفنون الجميلة. وهذا ما نقوم به بالفعل، لكن الموسيقى الشرقية هي التي يجب النظر إليها بأسرع ما يمكن وقبل كل شيء. إن مقياس التغيير الجديد للأمة هو قدرتها على إدراك التغيير في الموسيقى، وفهمه. إن الموسيقى التي تُؤدَّى اليوم بعيدة كل البعد عن أن تكون جديرة بالثناء. يجب أن نعرف هذا بوضوح. من الضروري جمع الكلمات التي تعبر عن المشاعر والأفكار الوطنية، ومعالجتها وفق القواعد الموسيقية النهائية العامة. فقط بهذا المستوى، يمكن للموسيقى الوطنية التركية أن ترتقي وتحتل مكانتها في الموسيقى العالمية. وأتمنى أن تولي وزارة الشؤون الثقافية الاهتمام الواجب لهذا، وأن يساعدها الجمهور في ذلك".
قرار المنع "التيمورلنكي"
في اليوم التالي للكلمة صدر قرار منع بث الموسيقى الشرقية في الإذاعة التركية، لتتبعه نقاشات حول منع الموسيقى الشرقية في الأماكن العامة. ففي عدد 8 نوفمبر 1934 من جريدة "جمهوريات" نشر خبر عن اجتماع "أعضاء مجلس المدينة استعدادا لتقديم اقتراح إلى مجلس الأمة التركي الكبير، لإزالة الموسيقى الحزينة التي لا تروق لروح الناس من الأماكن الموسيقية العامة". والهدف هو حظر الموسيقى التركية التقليدية في الكازينوهات بعد حظرها في الراديو. وعلى الرغم من هذه الأخبار، استمرت عروض الموسيقى التركية في الكازينوهات، حتى في الفترة التي مُنعت فيها الموسيقى التركية التقليدية في المدارس. كما نُشر مقال في الصحيفة نفسها يدعو إلى منع توزيع أسطوانات الموسيقى التركية التقليدية، كنوع من استكمال القضاء على هذا الداء.
لكن الناس العاديين، كحل بديل من الموسيقى الغربية التي كانت الإذاعات الوطنية التركية تصدع رؤوسهم بها، وجدوا في الإذاعات العربية، وخصوصا المصرية متنفسا لهم، ويطرح الباحث أوزيلديم في كتابه سؤالا: "إذا كان كبار الشخصيات في الدولة يستمعون إلى الموسيقى الغربية المتعدّدة الأصوات بإعجاب، فإلى ماذا كانت تستمع الأمة التركية آنذاك، وهي العنصر الأساسي الذي شكل الدولة، إلى بريتوريوس أم محمد عبد الوهاب؟". وشبه أحد الكتاب ما يحصل على صعيد غزو الموسيقى الغربية للإذاعة التركية بأنه شبيه بغزو تيمورلنك، حتى إنه يتشابه معه في الظلم.
عبد الوهاب وأم كلثوم
نتيجة هذا العبث النخبوي، توجه عموم الأتراك نحو الموسيقى العربية، فأصبحت الإذاعة الوطنية المصرية، مقصد المستمعين الأتراك، بما كانت تقدمه من أشهر الأسماء، مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد وغيرهم من الأصوات العربية المشهورة. ودخلت الأغنية العربية بيوت الأتراك ومقاهيهم، فلم تكن هذه الموسيقى سوى موسيقى تركية بلغة أخرى، كما يقول البروفسور يالتشن تورا، الذي يضيف: "إن الموسيقى العربية في ذلك الوقت كانت في طور الابتكار وخاصة التغريب، كما يمكن رؤيته في العديد من الأمثلة في الأفلام المصرية، حيث ظهرت العشرات من ألحان محمد عبد الوهاب".
بعد عامين من قرار الحظر أصدر أتاتورك قرارا غامضا يتضمن بث معزوفات الطنبوري عثمان بهلوان. وإن اعتبر هذا القرار بأنه رفع للحظر عن الموسيقى الشرقية، إلا أنه لم يتجاوز معزوفات هذا الموسيقي تحديدا، وبقي الحظر ساريا على ما سواه.
نشأت صداقات فنية بين الموسيقيين العرب والأتراك مثل علاقة الموسيقي التركي منير نور الدين سلجوق ومحمد عبد الوهاب، والمغنية التركية بريهان ألتنداغ سوزاري وأم كلثوم
تراجع بعد فوات الأوان
من غرائب تلك الأيام في تركيا أن أتاتورك نفسه كان مولعا بالموسيقى الشرقية، ولم يكن يحبذ الموسيقى الغربية طوال حياته، وقد صرّح بعد فترة من قرار رفع الحظر بما يأتي: "للأسف، أساؤوا فهم كلماتي. قصدتُ أننا يجب أن نجد طريقة لكي يستمع الغربيون إلى المقطوعات الموسيقية التركية التي نستمع إليها ببهجة. لم أقل دعونا نتخلص من الألحان التركية، لنأخذ موسيقى الدول الغربية ونجعلها خاصة بنا. لقد أساؤوا فهم كلامي، وأثاروا ضجة الى درجة أنني لم أستطع التحدث عن الأمر مرة أخرى".
من الواضح أن أتاتورك أدرك خطأ توجيهاته الموثقة بمحاضر رسمية، فقد دفعت تلك التوجيهات الجمهور التركي نحو العرب أكثر فأكثر، ولذلك حاول تدارك "المصيبة" بهذا التصريح الغريب، لكن الوقت كان قد فات على التراجع، فالموسيقى الشرقية فقدت في المؤسسات التعليمية، والموسيقى العربية باتت خيار الأتراك الأول، وغدا كل من أم كلثوم وعبد الوهاب نجمي الشارع التركي بلا منازع.
السينما المصرية والعلاقات الفنية
يتناول الكتاب بالتفصيل أيضا مسألة انتشار الأفلام المصرية الغنائية في دور السينما التركية، فبعدما تعرَّف الأتراك الى أصوات المغنين المصريين في الراديو، أقبلت الجماهير على دور السينما التركية التي تعرض الأفلام المصرية، بشكل كبير، وفي هذا السياق، يتناول الباحث بالتفصيل مسألة انزعاج الحكومة التركية من هذا الأمر آنذاك، والخطوات التي اتخذتها من أجل منع عرض هذه الأفلام دون دبلجة تركية. إلى جانب ذلك، يركز الباحث أيضا على دور زيارات الموسيقيين الأتراك والعرب بعضهم لبعض في تركيا والبلاد العربية، والعلاقات التي أقاموها خلال تلك الزيارات، ودورها في التفاعل الموسيقي. في هذا السياق يتناول الباحث زيارة زكايي داده أفندي، الذي يعتبر آخر الملحنين العظماء للموسيقى التركية الكلاسيكية في العهد العثماني، لمصر وتعلُّمه الموسيقى العربية، وزيارة المطرب والملحن المصري عبده الحامولي إسطنبول، وإدخاله مقامات وإيقاعات جديدة إلى الموسيقى الكلاسيكية بعد عودته إلى مصر. بالإضافة إلى تسليط الضوء على العديد من الصداقات الفنية بين الموسيقيين العرب والأتراك أثناء تلك الزيارات مثل علاقة الموسيقي التركي منير نور الدين سلجوق ومحمد عبد الوهاب، والمغنية التركية بريهان ألتنداغ سوزاري وأم كلثوم، حتى أن سوزاري تعلَّمت منها أغنية "غنِّيلي شوي شوي"، وبدأت في غنائها بكازينوهات إسطنبول.
من بين عوامل هذا التفاعل الموسيقي، يتناول الباحث دور المجلات التي كانت جسرا بين العرب والأتراك، فيستعرض أبرز المجلات الفنية التركية التي اهتمت بالموسيقيين العرب، والعكس. وفي هذا السياق، يورد الباحث العديد من اللقاءات الصحافية والأخبار الفنية مع موسيقيين عرب مثل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم. ويتعرض الباحث لمسألة عدم زيارة أم كلثوم لإسطنبول على الرغم من تصريحاتها في هذه اللقاءات مع المجلات التركية، برغبتها في ذلك، ويذكر الباحث العديد من الآراء حول هذا الأمر. ويختم المؤلف كتابه بالحديث عن النقاشات التي تدور في تركيا حول علاقة الموسيقى العربية بموسيقى الأرابيسك، ويورد العديد من الآراء حول هذه المسألة، ليثبت أخيرا أن الأرابيسك إحدى طرق دخول الموسيقى العربية إلى تركيا.