عندما سألنا معيد مادة القانون المدني ونحن في بداية مشوار الدراسة في كلية الحقوق بجامعة غرينوبل الفرنسية عن المهنة التي نتوق للقيام بها بعد الحصول على إجازة الحقوق، أجبت بأنني أود الانخراط في السلك الدبلوماسي. وشاءت الأقدار أن أتولى حقيبة وزارة الخارجية في بلادي، بعد انتهاء عملي في الأمم المتحدة.
انخرطت في العمل الدولي الإنساني من خلال مفوضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين لمدة اثنين وعشرين عاما، واكبت خلالها جهدا متميزا في خدمة من حرمهم البطش والتعسف من البقاء في ديارهم والتمتع فيها بحياة طبيعية ليجدوا طريقهم إلى بلاد أخرى احتضنتهم.
قادتني متابعة رحلة اللجوء إلى دول كثيرة، بدأتها في مدينة بيشاور الباكستانية، لأنتقل بعدها إلى سوريا والكونغو الديمقراطية والسودان ومصر، مع محطتين في المكتب الرئيس في جنيف.
كان تفهم أوضاع اللاجئين سهلا عندما كان هؤلاء ينحدرون من دول عربية، إلا أن المرارة كبيرة في عدم التمكن من تلبية كل احتياجاتهم ومطالبهم.
وفي الوقت الذي مكثت فيه لسنوات عدة في كل بلد سبق وأن ذكرته، فإن المشاركة السريعة- والتي لم تتعدَّ الشهرين في كل مرة- في عمليتين ضمن عمليات الطوارئ الكثيرة التي تقوم بها المفوضية في المراحل الأولى لعمليات النزوح، كان لها الوقع الكبير في نفسي.
أعني هنا مشاركتي في السعي لرفع المعاناة عن النازحين داخل رواندا، بعد الإبادة الجماعية لنحو مليون مواطن من عرقية "التوتسي" على يد نازيين جدد ينحدرون من عرقية "الهوتو" عام 1994. كانت السيدة صاداكو أوجاتا، المفوضة السامية لشؤون اللاجئين، قد استجابت لطلب الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، دكتور بطرس غالي، بمساعدة نازحين داخل بلادهم، استثناءً للقاعدة التي تقضي بانخراط المفوضية حصرا في عمليات حماية قانونية ومساعدة لاجئين غادروا بلدانهم الأصلية. كانت السلطات الجديدة في العاصمة كيغالي- ومن ورائها أسر الضحايا- التي دحرت مجرمي الحرب "الهوتو" غاضبة من الأمم المتحدة التي تقاعس مجلس أمنها عن التدخل قبل أشهر للحيلولة دون وقوع المجازر المروعة.
كان تفهم أوضاع اللاجئين سهلا عندما كان هؤلاء ينحدرون من دول عربية، إلا أن المرارة كبيرة في عدم التمكن من تلبية كل احتياجاتهم ومطالبهم
التجربة الأخرى كانت أسهل من ناحية التعامل مع النازحين والسلطات المحلية التي ترعاهم. فبعد المشاركة في عمليات استقبال اللاجئين اللبنانيين في سوريا في أعقاب حرب يوليو/تموز 2006، تم إرسالي إلى الجنوب اللبناني بعد وقف إطلاق النار أوائل سبتمبر/أيلول. ولا تفوتني الإشارة هنا إلى مشاعر الود والأخوة العربية التي غمرني بها أشقائي في جنوبنا اللبناني الحبيب.
وبعد تجربة إنسانية، وجدت نفسي أمام مسؤوليات سياسية في حكومة أزمة عصفت ببلادي في خريف 2014. فبعد رفض مجلس النواب لتشكيلة حكومية في منتصف سبتمبر/أيلول، توجه رئيس وزراء الحكومة الليبية المؤقتة إلى تشكيل حكومة أخرى، وقع فيها اختياري للاضطلاع بحقيبة الخارجية.
كان تمثيل بلادي الممزقة داخليا لا يخلو من الصعوبات في عالم لا يتفق فيه الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن دوما على دعم مفاوضات سلام يتقدم لتسييرها ممثلون للأمين العام للأمم المتحدة، ناهيك عن وجود خلافات بين بعض الدول الأوروبية المتنافسة فيما بينها على تحقيق مكاسب في ليبيا المتناحرة، تعقدها وللأسف صراعات أخرى حتى بين بعض الدول العربية. ومن ثم، فإن إعلاء الدبلوماسية الوطنية للصوت الليبي ومصلحة البلاد العليا في هذا الخضم يتعرض لكثير من التحديات.
لا ينبغي التقليل من أهمية العراقيل التي تواجه العمل الإنساني، إلا أن التحديات التي تواجه العمل السياسي، هي في الواقع أصعب، لكثرة المتدخلين في الأزمة
ويزيد التشرذم الداخلي من صعوبة مواجهة سيل جارف من الأطماع والأجندات التي تهدد وحدة الوطن وسلامة أبنائه، أطماع أطراف داخلية تغذيها تدخلات الخارج وتضاعف من حدة الأزمة.
إلا أنه لا يجب تناسي مآسٍ تتكرر يوميا داخل ديوان الوزارة، جراء عبث وتخلف يرميان إلى عرقلة العمل الدبلوماسي من مجموعات ضغط عديدة تسعى إلى إفشال العمل المبذول بالدفع بعناصر غير مؤهلة لممارسة العمل الدبلوماسي.
والمحصلة أنه لا ينبغي التقليل من أهمية العراقيل التي تواجه العمل الإنساني الذي انخرطت فيه لفترة طويلة، إلا أن التحديات التي تواجه العمل السياسي والذي عرفته- لفترة نحمد الله أنها لم تطُل- هي في الواقع أصعب، لكثرة المتدخلين في الأزمة- خصوصا الخارجيين منهم- والذين بدلا من إيجاد حلول كما يحلو لهم الادعاء، يمعنون في تعقيدها!