بين العامّية والفُصحى

بين العامّية والفُصحى

سجالات كثيرة وأحيانا حاسمة جرت حول استخدام العامّية في المسرح والفُصحى، على امتداد عقود، وما زالت حتى اليوم موضوعا سائغا، سواء على هامش المهرجانات المسرحية، بندواتها الفكريّة، أو سجالاتها بين الكتّاب وأهل المهنة؛ أو على صفحات المجلات المسرحيّة والفنيّة أو الجرائد وحتى الكتب.

فهناك رأيان جذريّان، تدور حولهما أفكار توفيقيّة: الرأي الأوّل يرى في العامّية "المسرحيّة" قضيّة حضاريّة تعيشها الأمة العربيّة منذ عدة قرون، وتفتخر فيها بتراثها الشعبي الأصيل تماما افتخارها بالتراث القومي. وهناك من ناحية أخرى من يرى أن لا فارق بينهما في الكتابة المسرحيّة، وقد دعا، كما أتذكر، الكاتب محمد تيمور، إلى التوفيق بينهما؛ لكن راح بعضهم يُخصّص وظيفة مختلفة لكلّ منهما: استخدام العامّية إذا كانت تعالج موضوعا واقعيّا، والفُصحى إذا كانت تُعالج موضوعا تاريخيا أو بعيدا عن الواقع.

وهناك رأي غريب يقول: كلّما ارتفعت نسبة الأمّية في المجتمع فالأفضل اختيار العامّية. كُرمى للشعب!

 برز في القرن العشرين ما سُمّي "المسرح خارج المسرح" أي مسرح المقاهي، ومسرح الشارع، والمنازل والقصور. كل هذه الأمكنة باتت مفتوحة ومشرّعة لأعمال درامية مستخدِمة أدوات، أو مفردات جديدة تحلّ أحيانا محلّ النصّ

 

إنّ مجمل هذه الآراء يمكن أن تُطبَّق نسبيا على القصة القصيرة، أو الخطب، أو المقالات، لأنها فرديّة، لا ينازعها مُنازع. لكن لا يمكن أن تنطبق على المسرح لأنّه عمل جماعيّ، قد لا تتعدّى فيه اللغة أحيانا بعض المفردات المسرحيّة (أو فلنقل إنه مفردة واحدة بين عناصر العمل الدرامي). ربّما كان جائزا منطق هؤلاء على المسرح في القرون الماضية (أيام المسرح الإغريقي والروماني والفرنسي في القرن السابع عشر)، عندما كان النصّ   سيّد "العمل المسرحي لا ينازعه منازع. لكن الأمور اختلفت في القرن العشرين، عندما اختُرعت الكهرباء (وكأنها أُمّ المسرح الحديث) وبتقنيّاتها تراجعت أولويّة النص: فقد وُلد المخرج، سيّد العرض وأُضيفت عناصر أخرى: الإضاءة والماكياج والموسيقى، وتعدّدت الفضاءات المسرحيّة بالسينوغرافيا والكوريغرافيا. فهذه باتت أجزاء ذات مفاهيم جديدة للمسرح، خلعت النصّ عن عرشه، ليصبح جزءا من أجزاء العمل المسرحي، خصوصا أن المذاهب والمدارس الفنّية التي طُلعت سلّمت المخرج برؤاه، أولويّة العرض وأدواته (فبات يوقّع العمل باسمه)، فسقط الجدار الرابع في المسرح واختلطت الحدود على الخشبة بين العلبة الإيطاليّة التقليديّة وبين الجمهور، بل برز في القرن العشرين ما سُمّي "المسرح خارج المسرح" أي مسرح المقاهي، ومسرح الشارع، والمنازل والقصور؛ كل هذه الأمكنة باتت مفتوحة ومشرّعة لأعمال درامية مستخدِمة أدوات، أو مفردات جديدة تحلّ أحيانا محلّ النصّ الذي لم يعُد يتعدى في بعض العروض حوارات محدودة.

وهنا يمكن القول إن "القيم الوطنيّة والحضاريّة والقوميّة لا تحسب في اختيار العامّية أو الفُصحى بل طبيعة العمل ومتطلّباته، ولأنّ المسرح لم يعُد يتحمّل "نظريّات" جامدة، جاهزة قبل وجوده. (فاللغة تبدأ مع المسرحيّة). فلكلّ عمل لغته ونبرته ولهجته، يُحدّدها المخرج ضمن مفهومه للعمل. بل يسقط هنا مفعول أن الفصحى للنخب والعامّية للشعب "الأُميّ" أو غير الأُميّ.. فلا يمكن صناعة مسرح انطلاقا من أعداد الأُميّين أو النُخب الاختصاصيين.

ونذكر هنا، أن العديد من كتّاب المسرح بالفُصحى قدّموا أعمالا جماهيريّة وشعبيّة صفّقت لها الجموع الحاضرة: أمثال المسرحيّ الكبير جورج أبيض (مؤسّس المسرح التراجيدي في مصر)، في بداية القرن الماضي، الذي كتب كلّ أعماله بالفُصحى، وكذلك سعدالله ونّوس، وعصام محفوظ، ويوسف إدريس وأحمد شوقي… بل إن مسرحيّات شكسبير وكورنيل وإليوت وسوفوكل وغوته وغولدوين… قُدّمت عندما كانت مُترجمة إلى الفُصحى، ولا تزال تُقدّم لكن برُؤى إخراجيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة جديدة؛ بمعنى أنّ المخرج بات ينافس الكاتب في صناعتها، أو حتى صارت تندرج هذه الأعمال في لوائح المخرج.

ولا بدّ هنا من أن نعود إلى المهرجانات المسرحيّة العربيّة وهي الميزان الدقيق لنجاح عمل أو فشله؛ خصوصا أنّها باتت أمكنة رائعة لما يُسمّى المسرح التجريبي (سواء في القاهرة أو في دمشق، أو قرطاج، في تونس) والتي كانت تضم فِرَقا عالميّة، من اليابان إلى الصين، إلى الولايات المتحدة إلى روسيا، وفرنسا واليونان… تُقدّم أعمالها بلغتها الأصلية، ووبرغم عدم فَهْم الجمهور حواراتها، كان يُهلّل لكثير منها ويستمتع بها، ويُصفّق لها.. لأنّ اللغة تعود إلى عناصر المسرحيّة ككل، ولا تقتصر على العامّية أو الفُصحى. بمعنى أنّ النصّ سواء كان عربيا أو غير عربيّ، هو شبكة من العلاقات المكوّنة لها، سواء البصريّة أو السمعيّة أو الجماليّة أو الحركيّة. فالمسرح أوّلا وأخيرا فِرجة (وليس أُمسية شعريّة أو خطابيّة)، يتوجّه إلى كل الحواس بمشهديّاته وإيقاعاته، ومنطوقه وصمته وإضاءته وسينوغرافيّته، تصبح كلّها البنية التي تُدرك المتفرّج بجمالها.

من هنا تبدو مسألة الفُصحى والعامّية متجاوزة: فالعمل الدرامي لا يؤدّيه خطيب، أو قارئ، أو مجرّد مونودراما بلا مؤثّرات. فإذا كانت رؤيا المُخرج غير بلاستيكيّة أو تشكيليّة، فإنها تقدّم لوحات مُتتالية ومشهديّات تخدم كلّها المدى الدراميّ، أي لا تقع في المجّانية الجماليّة؛ ليصير النصّ جزءا منها. ونتذكر أننا شاهدنا في هذه المهرجانات أعمالا عديدة غاب عنها النص (وحلّ محلّه الإيماء) أو الرقص أو حتّى الصمت صار جزءا من العمل.

من هنا نقول إنّ ليس للمسرح مكان واحد، أو لغة واحدة، أو زمن واحد. فهو يطلع من كل شيء. (ألَمْ يقولوا إنّ العالم مسرح كبير)، وكلّ  شيء يمكن أن يُشكّل مادّة له. يمكن أن يحوّل مُخرج مباراة كرة قدم مسرحيّة، أو اجتماعا، أو تظاهرة أو حتى يوميّات عائليّة، أو حركة في الشارع.

هذه هي عَظَمَة المسرح، فهو لا يعرف التابوهات، ولا الحدود المصطنعة أو لغات التعبير المحدودة. مجاله كلّ شيء لكن المهم مَنْ يكتب، ومن يُخرج، ومَنْ يمثّل. وهنا تزول الحدود بين اللغات سواء كانت شعبيّة أو فُصحى أو أدبيّة أو فلسفيّة أو عربية أو أجنبية، فهي مجرّد أداة وليست هدفا في ذاتها.

على هذا الأساس يبدو هذا الخلاف بين العامّية والفُصحى وهميّا. فاختيار أيّ منهما لا يعود لا إلى أسباب قوميّة أو وطنيّة أو سياسيّة، فالمهمّ كيف يستخدم المُخرج والممثّلون هاتين الأداتَين اللغويّتين، فإذا فشِلَ هذا المُخرج والممثّلون، فقد فشل العمل كلّه، لا العامّية وحدها، ولا الفُصحى.

يبدو الخلاف بين العامّية والفُصحى وهميّا، فاختيار أيّ منهما لا يعود لا إلى أسباب قوميّة أو وطنيّة أو سياسيّة، فالمهمّ كيف يستخدم المُخرج والممثّلون هاتين الأداتَين اللغويّتين

وهنا أُحيل القارئ على ما تقدّمه بعض التلفزيونات العربيّة من أعمال مسرحيّة "كوميديّة" بالعامّية، لنكتشف مدى الانهيار الدرامي والمسرحي والفنّي في هذه الأعمال.

وهنا بالذات، أسأل: هل تمّكنت العامّية وحدها من جعل هذه الأعمال "التافهة" مفخرة وطنيّة أو قوميّة.

من هنا نقول: كل لهجة عامّية قادرة بشروط جيّدة أن تقدّم تُحفا مسرحيّة راقية، لا لأنّها مجرّد عامّية بل لأنّ كل الشروط المستخدمة وافية لإنجاحها. وكذلك الفُصحى.

وعليه ينتفي كلّ انحياز جاهز لهذه اللهجة أو تلك اللغة.

ـ

font change