البدايات والجدّة النحّاتة
ولد هاشم تايه في محلة القشلة بالعشار، مركز البصرة، بعد ثلاث سنين من الحرب الكونية الثانية. ونشأ في بيت مكتظ وصاخب، لا علاقة له بالفن، لأبوين أميين لم يدعما موهبة ابنهما: "والدي كان متعهدا لإمداد شركتي الموانئ، ونفط البصرة، بالدواجن والبيض. المنزل مشغول على الدوام بعمليات تهيئة وتنظيف الدجاج لنقله إلى المشترين. البيت قديم يضم فناء تحيطه جدران فارغة وواسعة بدت تناديني بغرابة، كنت ألتقط الفحم المنزلي، وأبدأ برسم أشكال وهيئات غريبة بلا كلل".
عن المؤثّر الأوّل يذكر صاحب "حياة هشّة": "كان أهل أمّي يسكنون قرب شط "نهير الليل"، كنتُ أزورهم هناك، وكانت جدّتي تأخذني إلى جدول خلف كوخها القصبيّ. تمد يدها بخفة وتصل إلى طين الجدول منتزعة كتلة طينيّة لتنحت منها أفراسا وأشكالا بشريّة. كانت الأشكال التي تصنعها جدّتي شبه احترافية بمنظور أيامنا على الرغم من فطرتها البدائية آنذاك".
اقتصرت رعاية الأسرة على الأخ الأكبر الذي ارتبط بصداقة مع إبراهيم وعودة الكمالي، الفنانَين المعروفَين في البصرة، فكان يأتيه بتخطيطات ولوحات لهما ليقلدها.
في المدرسة كانت صور الملك فيصل الثاني (لاحقا عبد الكريم قاسم) تمرينه المفضل تحت رعاية مدرّسه سالم عبد الكريم المظفر الذي أشركه في المسابقة السنوية لمديرية تربية البصرة ليفوز بإحدى جوائزها. لكن القدر أسعفه في مرحلة الثانوية بالتتلمذ على يد الفنان محمد راضي عبد الله، التشكيلي المعروف، وأحد تلاميذ الفنّان فائق حسن: "كنت أتدرب في مرسم الإعدادية المركزية الشهيرة مع مجموعة من الطلبة تحت إشراف راضي". غير أن حياته الجامعية ابعدتْه قليلا عن الرسم، إذ ادّخرت له دراسة آداب اللغة العربية، وعروض الشعر العربي، على يد نازك الملائكة في جامعة البصرة، كلية الآداب.
بعد تخرجه في الجامعة درّس هاشم تايه اللغة العربية في الجزائر ما بين 1970-1972، ليعود إلى وطنه ويقدّم أول معرض شخصيّ في قاعة نقابة الاقتصاديين في البصرة. أعقبه معرض ثان عام 1976 في "غاليري 75" التي أسّسها الفنان الراحل ناصر الزبيدي. أما المعرض الثالث فأقيم في قاعة اتحاد الأدباء في البصرة عام 1989. لكنه يؤشر الى أهم معارضه بالقول: "أهم معارضي كان في قاعة "حوار" ببغداد عام 2011 بعنوان "كرتون" انتجت فيه وصديقي التشكيلي ياسين وامي مجموعة أعمال مجسّمة بالورق المقوى، لقد قدَّمنا المعرض لمعرض عالمي آخر أكثر أهمية، هو بينالي البندقية في إيطاليا".
يمكن عد تجربة هاشم تايه مع المواد البديلة برهانا على قوة تأثير الظرف الخاصّ لكل واحد منا في صنع مصيره ومسار حياته: "ظرفي الخاص، منذ الصغر، جعلني أنزع إلى استعمال المادّة البديلة في الرسم. فقد كان والدي يُطالبني بالعمل معه في وكالة الدواجن، لذا فإن أي دعم مادّي لشراء الألوان هو في حكم العبث المستحيل".
يذكر تايه موقفا مؤثرا في تلك الأيام، فقد كان يذهب إلى "حديقة الشعب" العامة في ساحة "أم البروم"، وسط البصرة، حاملا كيسا يلمُّ فيه مجموعة من أزهار الحديقة. حين يعود إلى البيت يستخدم عصارة الأوراق الطرية للزهور الملونة في التلوين بعد دعكها على الورق واستخراج خلاصتها عوضا من الألوان التقليدية.
مطاردة وتعذيب وتقاعد مبكر
لم يعرف تايه أن سنوات الهدوء التي عاشها بين الدراسة والرسم ستنتهي سريعا مع بوادر دخول العراق دوامة الدم والعنف. أولى شرارات تلك العاصفة انهيار ما عرف وقتها بـ"الجبهة الوطنيّة"،وانقلاب حزب البعث في البلاد على المشهد السياسيّ وحملة الاعتقالات الواسعة التي طالت الأحزاب اليساريّة والدينيّة، لينال تايه، العضو في الحزب الشيوعيّ العراقيّ، حصة من المطاردة والاعتقال والتعذيب. غير أن الفاجعة الكبرى كانت في إقدام النظام الحاكم على إعدام شقيقه في 1983 بالدعوى نفسها. أعقبها مباشرة معاقبته بالنقل من مديرية التربية إلى مديرية الزراعة: "حتى بعد نقلي إلى مصلحة الزراعة، لم أسلم من مضايقات الأجهزة الأمنية وتقارير الرقابة التي اضطرتني إلى التقاعد المبكر عام 1987. كان الراتب التقاعدي بسيطا جدا اضطرني إلى العمل بمهن متعددة وقاسية".
إحدى تلك المهن كان لها علاقة عجيبة بالرسم. فقد عمل أجيرا عند عطار في سوق موسى العطية بالعشار: "كان صاحب العطارة مسنا يحتاج إلى أجير يحمل الشوالات الثقيلة ويوضب مواد المخزن ويعاونه مع الزبائن. وجدت مرة، في مخزن العطارة، موادَّ صبغية يستخدمها صبّاغو السجاد من صانعي المنسوجات في تلوين خيوط البسط والأُزُر. مساحيق وحبوب خاصة تُنقّع في الماء فتخرج منها صباغ عجيبة وغريبة. استخدمها للرسم، كما استخدمت صباغ الأغذية. انتجت هذه التجربة الخاصّة معرضا عام 1995 أقيم في قاعة اتحاد أدباء البصرة".
إذا كانت ظروف النشأة والحصار قد اجبرتك على استخدام الخامات غير التقليدية سابقا، فلماذا تصر على استخدامها الآن على الرغم من انتفاء تلك الظروف؟ يقول: "يقع الفنان تحت نزوعه إلى التجريب، واكتشاف مواد جديدة، وابتكارها. وهذا جزء من إبداعه، ليس ما يتحقّق على سطح لوحته، بل جزء منه يعود إلى المادة نفسها. أنت تنتقي مادة بديلة وتغامر في توظيفها. كما أن المادة غير التقليدية تتيح لي إفراد تجربتي عن تجارب أقراني".
وعن فرادة المواد "العاديّة" التي يعمل عليها ويراها مهيّأة لإنتاج أثرٍ فنيّ مدهش يرى أن "المواد التي استثمرتُها مألوفة في الاستعمال اليوميّ، والاستهلاك البشريّ، وتوظيفها (فنيا) ينزع عنها مألوفيتها، ويدخلها في منطقة غرابة، الفن ابن الغرابة. إنني أحاول التعبير عن هشاشة الوجود الإنساني عامة وهشاشة حياتنا كعراقيين. إن توظيف مادة الحياة في أعمال الفن يفتح الباب أمام حياتنا لتدخل في مجال الفنّ".
يؤمن هاشم تايه أن التالف من المواد، والمرذول منها، جزء من الحياة، يعيش معنا، ولا سبب يدعونا لإهماله طالما هو مُتعشق في تضاعيف حياتنا: "أتلقف المواد التي أستعملها من الشارع أو الرصيف. هذه المواد بعد أن ترمى على الأرصفة تتعرض الى آثار الحياة والطبيعة. تُيبسّها الشمس بأشعتها. ويقع عليها الغبار. المطر يكسوها ببقع من الأشكال المثيرة. تسحقها عجلات السيارات، وتُسطّحها. هذه المواد تتلقّى، في الفضاء العام، آثارا من البيئة، والمحيط، مما يجعلها تكتسب تعبيرا خاصا محفّزا أراه بعيني وأشعر به. هذا التعبير الذي وقع عفوا يمكن تطويره فنيّا، وتنميته وصقله لينضمّ إلى آثار الفنّ".
يقطع هاشم يوميا مسافات طويلة في الشوارع والحارات بحثا عن تلك اللقى التي تنتظره. يخرج فجرا إلى الأزقة، يفحص العالم وأشياءه اللا نهائية التي تعينه وتفتح له آفاقا لمفازات لا مرئية.