اعلن تحالف منتجي "أوبك بلس" تعديل مستوى إنتاج النفط إلى 4,40 ملايين برميل يوميا، اعتبارا من شهر يناير/كانون الثاني 2024 وحتى نهاية السنة. على الرغم من ذلك لم تتأثر أسعار النفط، بل استمر تداول سعر خام برنت في نطاق ضيق جدا بين 75 و77 دولارا، مما يثبت بُعد النظر إزاء استراتيجية الإنتاج حتى عام 2024 مع مراقبة تطورات السوق عن كثب.
لم يتسبب إعلان تحالف منتجي "أوبك بلس" في تغيير مستويات الإنتاج الحالية، باستثناء الإنتاج الطوعي الذي سيكون له أثره في توازن السوق، أكثر من باقي تخفيضات إنتاج "أوبك بلس" التي وصلت إلى 3,7 ملايين برميل يوميا.
قُبيل اجتماع تحالف منتجي "أوبك بلس" مطلع شهر يونيو/حزيران المنصرم، كان هناك الكثير من الاجتهادات لمحللي أسواق النفط بشأن تعديل خط أساس الإنتاج لبعض الدول. في الواقع، يعتبر خط أساس إنتاج المملكة العربية السعودية الأكثر تأثيرا في إحداث فرق، وتجلى ذلك مع تعزيز السعودية لدورها المستمر باعتبارها "المنتج المرجّح" الوحيد في العالم، الذي أبهر الجميع بقدراته الاستثنائية على خفض الإنتاج من مستوى قياسي بلغ 12,3 مليون برميل يومياً إلى 7,49 ملايين برميل يومياً في غضون شهرين فقط، أثناء ذروة جائحة كوفيد-19 عام 2020. يعكس ذلك مدى قدرة السعودية على إدارة المشهد في اللحظات الحرجة، إلى جانب البنية التحتية الاستثنائية لعملاق النفط والطاقة، شركة "أرامكو السعودية"، ومرونتها التشغيلية منقطعة النظير.
ثالث خفض طوعي للسعودية
أفضى قرار منتجي "أوبك بلس" إلى تعديل استراتيجية خفض الإنتاج عام 2024، غير أن القرار الأهم الذي فاجأ الأسواق، هو ثالث خفض طوعي للسعودية منذ الجائحة بمقدار مليون برميل يوميا في صيف 2023، بعد خفضين طوعيين عامي 2020 و2021، خصوصا أن هذا القرار قد يعني أن السعودية ربما تكون مستعدة للتخلي عن حصتها في السوق، وبالتالي خسارة عوائد مالية قد تصل إلى 70 مليون دولار في اليوم، أي 2,1 مليار دولار في الشهر، باعتبار سعر النفط عند مستويات شهر مايو/أيار الماضي (في حدود 70 دولارا للبرميل)، وهو يمثل أحد أسوأ السيناريوهات. إلا أن هذا القرار يشير أيضا إلى أن المملكة لديها مرونة مالية تمكنها من تحمل تداعيات الخفض الطوعي.
يعتبر خط أساس إنتاج السعودية الأكثر تأثيرا في إحداث فرق، وتجلى ذلك مع تعزيز السعودية لدورها المستمر باعتبارها "المنتج المرجّح" الوحيد في العالم
تجدر الإشارة إلى أن خط أساس إنتاج النفط في السعودية البالغ 10,5 ملايين برميل يوميا، سينخفض إلى 9 ملايين برميل يوميا في شهر يوليو/تموز المقبل، بعد خفض طوعي سابق بنحو 500 ألف برميل، وخفض طوعي أخير بمقدار مليون برميل يوميا، ما يعادل عوائد مالية تقدر بنحو 105 ملايين دولار في اليوم، أي نحو 3,15 مليارات دولار في الشهر (مع متوسط سعر 70 دولارا للبرميل).
تضحيات استثنائية
لا شك أن المملكة قادت جهودا حثيثة بكل اقتدار لتحقيق التوازن في أسواق النفط العالمية واستقرار الاقتصاد العالمي. وكون خط الأساس (Baseline) لإنتاج السعودية يحظى بالتأثير الفعلي، أدى خفض المليون برميل المؤلم التي تحملته المملكة طوعاً، إلى تحقيق توازن في الأسواق واستقرار الاقتصاد العالمي وسلامة صغار المنتجين، وهو إجراء لا يقوى عليه سوى السعودية، وهي التي قدمت التضحيات الكبرى، وبلا منازع، حيث تحملت الرياض العبء الأكبر في تخفيضات تحالف "أوبك بلس" منذ بدايتها مطلع عام 2017، فكانت نسبة خفض إنتاجها إلى إجمالي خفض بقية أعضاء "أوبك"، 41 في المئة، علما أن نسبة إنتاجها إلى إجمالي إنتاج بقية الأعضاء 31 في المئة فقط. وللمملكة الدور الأكبر حتى قبل جائحة كوفيد-19، وفي كل الظروف التي عانت منها أسواق النفط؛ فهي من قادت تحالف "أوبك بلس" للاتفاق على الخفض التاريخي للإنتاج أثناء ذروة الجائحة بنحو 10 ملايين برميل يوميا، على الرغم من أن إنتاجها في ذلك الحين وصل إلى ذروته عند 12,3 مليون برميل يومياً.
القرار الأهم الذي فاجأ الأسواق، هو ثالث خفض طوعي للسعودية منذ الجائحة بمقدار مليون برميل يوميا في صيف 2023، بعد خفضين طوعيين عامي 2020 و2021، خصوصا أن هذا القرار قد يعني أن السعودية ربما تكون مستعدة للتخلي عن حصتها في السوق وبالتالي خسارة عوائد مالية مهمة
وإن كانت توقعات منظمة "أوبك" لنمو الطلب، وتوقعات أخرى، تشير إلى أن ارتفاع الطلب العالمي على النفط في النصف الثاني من عام 2023 سيصل إلى ذروة جديدة تزيد على 102,3 مليون برميل يوميا، مقارنة بنحو 99,6 مليون برميل يوميا عام 2022، إلا أن الإحباط الذي سببته الأنباء المتشائمة من القطاعات المالية في شهر مارس/آذار عام 2023، أدى إلى تقلبات وتراجع في الأسعار بنحو 14 دولارا، وهي التقلبات الأكثر حدة لسنة 2023، مدفوعة بمخاوف مالية أثرت على النمو الاقتصادي وبالتالي على توقعات نمو الطلب.
جاء ثالث خفض طوعي للإنتاج من السعودية على إثر هذه التقلبات، التي زادت من الغموض حول توقعات توازن العرض والطلب. وحتى إن تراجعت انعكاسات الأزمة المالية نسبياً على الأسعار، فإن تأثيرها على المستثمرين وعلى الاقتصاد العالمي قد يأخذ مزيدا من الوقت، لينسحب ذلك على الطلب على النفط من جهة، وعلى الإمدادات النفطية من جهة أخرى، في معادلة تحتاج حسابات دقيقة، خصوصا في ظل تغير قناعات مستثمري النفط فيما يتعلق بالضخ الاستثماري مع رفع أسعار الفائدة، بسبب شح السيولة وتراجع الأسعار منذ النصف الثاني من عام 2022.