لأول مرة في تاريخها الحديث، تفتخر جمهورية ألمانيا الاتحادية بطرح استراتيجية للأمن القومي. لكن المفارقة هي أن تقديم هذه الاستراتيجية احتاج لبناء تحالف ثلاثي الأطراف من الاشتراكيين الديمقراطيين-الاجتماعيين والليبراليين والخضر (البيئيين)، أي تحالف الأحزاب السياسية التي كانت غالبا ما تشكك في الحروب وأولوية الأمن.
ويبدو أن اختيار مصطلح "تقديم" هنا كان مناسبا، إذ لم يبدُ المسؤولون الحكوميون الذين عرضوا الاستراتيجية يوم الأربعاء الماضي أمام الصحافة شديدي الحماس لها. وكان "العقد الحكومي"، وهو مذكرة تفاهم تقليدية وقعتها أحزاب الائتلاف قبل تشكيل الحكومة في عام 2021، قد وعد بطرح خطة بشكل أو بآخر، لذا حان الوقت لتحقيق ذلك. وبينما قام حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ– والموجود اليوم في المعارضة– بحملة لم تؤت أكلها لإنشاء مجلس أمن قومي لألمانيا، لم يُظهر التحالف رغبة كبيرة في تبني مثل هذا المشروع.
وفي نظام مثل ألمانيا، حيث تخضع شؤون الأمن الداخلي لنزاعات على النفوذ بين السلطات الإقليمية والفيدرالية على نطاق شبه شعبي، لم تستطع وزيرة الخارجية التي تنتمي لتحالف الخضر، والمستشار الاشتراكي الديمقراطي الوصول لاتفاق حول من سيتولى زمام الأمور في مثل هذا المجلس، لذلك قررا ببساطة التخلي عن هذه الفكرة.
وردت وسائل الإعلام الألمانية والخبراء الأمنيون بالمثل على العرض الفاتر للاستراتيجية بعد قراءتهم للتفاصيل؛ إذ تعرضت الحكومة للانتقاد لعرضها ما تريد فعله لجعل ألمانيا أكثر أمانا– دون توضيح الطريقة. ووفقا للجزء التحليلي في الوثيقة، فإن روسيا تمثل التهديد الرئيس للأمن في نظر الحكومة الألمانية، بينما اعتبرت الصين كجهة فاعلة مركبة؛ فهي شريك في عدة مجالات، لكنها منافس في عدد متزايد من المجالات الأخرى.
ويبدو أن الشرق الأوسط، الذي يُنظر إليه تقليديا في أوروبا على أنه مصدر دائم للمشاكل غير المتوقعة، يلعب دورا أقل أهمية بكثير في الاعتبارات الاستراتيجية للحكومة. ويستند هذا إلى ثلاث ركائز للأمن المتكامل، وهي رفع مستوى القدرات العسكرية والدفاعية الألمانية، وتعزيز مرونة المجتمع ضد التدخل الأجنبي، لا سيما من خلال نشر المعلومات المضللة والحرب الإلكترونية، والتنمية المستدامة. ويؤكد هذا العنصر الأخير الاعتقاد القوي في برلين بأن تهديدات مثل تغير المناخ ستؤدي إلى أزمة وجود في أوروبا وجوارها، وبالتالي يجب اعتبارها مخاوف أمنية. وحتى الآن، كل شيء ما زال على ما يرام، على الورق.