تركيا من أهم دول الجوار للعالم العربي، ولها تأثيرات كبيرة على ما يجري في معظم مجتمعات العالم العربي، وخصوصا سوريا والعراق وفلسطين. لذلك من الأهمية بمكان ليس الالتفات فقط للتغيرات في سياساتها الخارجية، بل محاولة فهم الديناميات الداخلية في تركيا وتأثيرها على كيفية فهم تركيا لدورها في المنطقة وكيفية ترجمة ذلك لعلاقاتها مع دول المنطقة، بما في ذلك إيران وإسرائيل، وتداعيات ذلك على القضايا العربية، وخصوصا في المشرق العربي: سوريا والعراق والقضية الفلسطينية.
تحتفل الجمهورية التركية هذا العام (2023) بمئوية تأسيسها. وبهذا فإنها تكون من رواد الدولة الوطنية في المنطقة، بعد مصر وإيران. وبعكس من يدّعون أن تركيا، في عصر أردوغان تحديدا، تحاول إحياء الفكرة العثمانية، والدولة الإسلامية، وهي ادعاءات تأتي ممن يعارضون توجهات تركيا بقيادة أردوغان– وبالأساس من محللين إسرائيليين وأوروبيين وعرب يساريين عموما، وكلهم يعادون التوجهات "الإسلامية" لتركيا في حقبة أردوغان، بالإضافة لكثير من المحللين المنضوين تحت رايات الأنظمة العربية، التي اعتبرت صعود تركيا الأردوغانية تهديدا لها، وقامت وسائل إعلامها بحملة لترويج فكرة الأحلام السلطانية لأردوغان، فإن تركيا في عيدها المئوي تكون قد مرت في مرحلة تعززت بها فكرة الدولة الوطنية وتعمقت بحيث أصبحت المكون الأساس في المخيال التركي، الشعبي والرسمي.
وبهذا فإن "الأردوغانية" (نسبة إلى أردوغان)، كما الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك)، وأتباعهما المعاصرين، لا يختلفان جوهريا في الانضواء تحت الدولة الوطنية واعتبار مصالحها الوطنية وأمنها القومي مرتبطين بالخريطة الجغرافية (وسكانها)، كما تمت صياغتها قبل مئة عام.
واذا كان التوصيف أعلاه صحيحا، فإنه من الأهمية بمكان فهم النقاشات الداخلية والخلافات بين الأطراف التركية، كما يتم التعبير عنها خلال العقود الأخيرة، وخصوصا منذ صعود حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا عام 2002. هذه النقاشات وصلت إلى أوجها خلال حملات الانتخابات الأخيرة (مايو/أيار 2023).
أولا: الأردوغانية ووضع تركيا
"الأردوغانية" هي صفة تطلق على رؤية شاملة تشكلت خلال سنوات طويلة من النقاشات والمشادات والاختلافات الداخلية في تركيا، ويتم التعبير عنها في العقدين الأخيرين من خلال الطريق الذي يقوده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. في الحقيقة لا يمكن الادعاء بأن هذا الطريق من صنع أفكار أردوغان وحده، بل إنه طريق طويل عايشته تركيا منذ لحظة إقامة الجمهورية التركية قبل قرن.
صحيح أن الرئيس المؤسس لتركيا الحديثة استطاع أن يغيّر نظام الحكم، ويفرض أنماطا قومية حديثة في التفكير والسلوك التركيين، وإحداث تغيير منهجي في التوجهات الاجتماعية والثقافية تمثلت بالأساس في تبني الأفكار والمناهج الحياتية الأوروبية، وأسسها العلمانية والتمغرب الثقافي والاجتماعي، إلا أن عموم هذه التغييرات واجهتها توجهات محافظة أو شرقية أو إسلامية، ارتأت منذ البداية أن تحول تركيا الرسمية نحو التمغرب يبعدها عن تراثها وإرثها الديني والاجتماعي، وبالتالي عن شعبها المتمسك بقيم تسمى عموما "الشرقية" أو المحافظة.