سبعون عاما على تأسيس الجمهورية المصرية

ماذا لو بقي محمد نجيب رئيسا ولم يُسقط في عام 1954؟

AFP
AFP

سبعون عاما على تأسيس الجمهورية المصرية

لم يطل الأمر بمصر لتنتقل رسميا من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري إلا عاما واحدا أو أقل، وهي فترة غالبا ما يغفلها الصحافيون والمؤرخون في مصر الحديثة؛ إذ يُشير معظمهم ببساطة إلى ثورة الضباط الأحرار التي حدثت في 23 يوليو/تموز 1952 على أنها نقطة انطلاق للجمهورية على الرغم من أن إلغاء النظام الملكي رسميا استغرق أحد عشر شهرا أخرى، وجرى ذلك في 18 يونيو/حزيران 1953.

قبل ذاك، كان الضباط الأحرار قد أنشأوا هيئة الوصاية على العرش في 2 أغسطس/آب 1952 كي تتصرف نيابة عن الملك أحمد فؤاد الثاني، الابن الرضيع لآخر ملوك البلاد، فاروق الأول، والذي لم يزد عمره وقتذاك عن ستة أشهر. لكن تلك الهيئة لم تكن تتمتع بسلطة حقيقية. وانطلاقا من هذه النقطة بدأ الضباط الأحرار يتولّون الأمور كلّها، وألغوا هيئة الوصاية على العرش رسميا في 7 سبتمبر/أيلول عام 1952.

AFP
مجموعة من "الضباط الاحرار" اثناء اجتماع لهم بعد ثورة 23 يوليو ويبدو محمد نجيب في الوسط

اعتبارا من 15 يناير/كانون الثاني 1953، حُظرت جميع الأحزاب السياسية المصرية، ومن ضمنها حزب الوفد الشعبي، وحُظرت بعد ذلك جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تدعم اللواء محمد نجيب، قائد الضباط الأحرار. واعتُقل زعيم الوفد، مصطفى النحاس باشا، واعتُقلت زوجته مع كبار أعضاء الحزب. كان محمد نجيب الذي يبلغ الخمسين من عمره هو الضابط الأكبر سنا بين مجموعة الضباط التي أطاحت بالنظام الملكي، في حين كان باقي زملائه في أوائل الثلاثينيات من عمرهم. وكان الضباط الأحرار، الذين خرجوا من حرب فلسطين 1948 مهزومين ومكلومين، قد ألقوا باللائمة على الملك فاروق فيما أصابهم، ووصلوا إلى السلطة وهم يضعون الانتقام نُصب أعينهم لأنهم نشأوا في جو المعركة وكان الغضب يتولاهم جراء الهزيمة التي تعرضوا لها.

تحديات الحقبة التي تلت الثورة

طُرحت مواضيع مثيرة للجدل لم تلقَ اتفاقا في أوساط الضباط الأحرار على طاولة نجيب، بدءًا من كيفية إدارة البلاد بعد رحيل فاروق، وصولا إلى كيفية طرد البريطانيين الذين كانوا يحتلون مصر منذ عام 1882. الأمر الوحيد الذي اتفق عليه الضباط الأحرار هو إصلاح الأراضي، بالنظر إلى أن أقل من ستة في المئة من سكان مصر كانوا يمتلكون أكثر من 65 في المئة من الأراضي الزراعية. وكان كل الضباط الأحرار ينحدرون من خلفية فلاحية، فلم يكن غريبا أن يكون لديهم مأرب في التغلب على وجهاء الأرض، فقاموا بتمرير قانون الإصلاح الزراعي في وقت مبكر في 11 سبتمبر/أيلول 1952. وحُظر على المصريين امتلاك أكثر من 200 فدان ووُضع حد للمبلغ الذي يتقاضاه مالكو الأراضي من المزارعين لقاء تأجيرهم للأرض.

بدأ الضباط الأحرار يتولّون الأمور كلّها، وألغوا هيئة الوصاية على العرش رسميا في 7 سبتمبر/أيلول عام 1952

من المشكوك فيه أن يكون أي من الضباط الأحرار على دراية بنقاش مماثل دار في الأمم الأخرى التي تحولت من النظام الملكي. كان نجيب واسع الاطلاع وكان يتباهى بامتلاكه مكتبة كبيرة، في حين ركز بقية زملائه تعليمهم بالكامل على الدراسات العسكرية التي كانت قليلا ما تتطرق لتاريخ العالم، فكانوا يعرفون القليل مثلا، أو أنهم لم يكونوا يعرفون أي شيء بتاتا، عن الثورة الفرنسية.

وكذلك الحال مع ثورة كانت أقرب إليهم، فلم يكونوا على دراية بالكيفية التي ألغى بها كمال أتاتورك السلطنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. ولا يسع المرء إلا أن يتساءل عما إذا كان لديهم أي معرفة بتاريخ إيران، حيث قام ضابط آخر يدعى محمد رضا بإطاحة سلالة قاجار قبل ثلاثة عقود، وبعد أن فكر لوهلة في اتباع نهج الجمهورية على نموذج أتاتورك، قرر في النهاية الإبقاء على عرش الطاووس وأعلن نفسه شاهنشاه (ملك الملوك)، وابتدأ السلالة البهلوية التي حكمت إيران حتى عام 1979.

دستور 1953 المؤقت

أُلغي الدستور المصري السابق الذي وُضع عام 1923 رسميا في 10 ديسمبر/كانون الأول 1952، وتزامنت ولادة الجمهورية المصرية مع اعتماد ميثاق جمهوري جديد لمصر، صدر الميثاق في 10 فبراير/شباط 1953، ومُنحت صلاحيات واسعة النطاق لمجلس قيادة الثورة، ووقع محمد نجيب الذي أصبح أول رئيس للبلاد في ذلك العام على الميثاق. وأصبح زميله الذي يتمتع بشخصية جذابة، العقيد جمال عبد الناصر، نائبا لرئيس الوزراء وزيرا للداخلية. انتقد إعلان الجمهورية بعبارات شديدة اللهجة حياة البذخ التي كان يعيشها أفراد أسرة محمد علي، والتي حكمت مصر منذ أوائل القرن التاسع عشر، وعلى وجه الخصوص الخديوي إسماعيل الذي جرّ مصر إلى الوقوع في الدَين، والذي كان يعتمد على عمل السخرة أثناء حفر قناة السويس.

AP
قوات من الجيش المصري امام قصر عابدين في القاهرة اثناء ثورة 23 يوليو 1952

تضمنت الوثيقة ثلاثة مطالب: إلغاء حكم سلالة محمد علي، وإعلان الجمهورية، وتعيين مجلس قيادة للثورة لقيادة البلاد، فيما أصر الضباط الأحرار على أنها "فترة انتقالية". وكان من بين الموقعين على الوثيقة ثلاثة رؤساء قادمين لمصر (نجيب، وعبد الناصر، وأنور السادات) وقائد الجيش المقبل عبد الحكيم عامر، ونواب الرئيس المقبلون زكريا محي الدين، وحسين الشافعي، وعبد اللطيف البغدادي، وغيرهم.

ولادة الجمهورية

بقية القصة– بطبيعة الحال- معروفة جيدا للمؤرخين في مصر والعالم العربي الحديث. بقي نجيب في السلطة حتى أطاح به عبد الناصر في انقلاب أبيض غير دموي في نوفمبر/تشرين الثاني 1954. وبعد اتهامه بدعم جماعة الإخوان المسلمين المحظورة مؤخرا. وُضع نجيب قيد الإقامة الجبرية في فيلا زينب الوكيل (زوجة نحاس باشا) المصادرة، ولم يغادر سجنه هذا حتى أمر أنور السادات بإطلاق سراحه في عام 1971.

وحكم جمال عبد الناصر مصر منذ عام 1954 حتى وفاته المفاجئة في سن الثانية والخمسين، في 28 سبتمبر/أيلول 1970. وشهدت رئاسته أحداثا ضخمة بدءا من تأميم قناة السويس عام 1956 مرورا بالعدوان الثلاثي الذي شنّته بريطانيا العظمى وفرنسا وإسرائيل. ثم جاء الاتحاد الذي لم يدم طويلا مع سوريا في الفترة من 1958-1961، تلاه الفشل الذريع في حرب الأيام الستة عام 1967، والتي وصفها عبد الناصر بالنكسة. شن عبد الناصر لاحقا حرب استنزاف ضد إسرائيل لكنه توفي قبل الانتهاء منها في عام 1970. وكان آخر عمل له في منصبه هو التوسط لوقف إطلاق النار في أحداث عام 1970 في الأردن، المعروفة باسم "أيلول الأسود"، بين منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات والملك حسين.
 

طُرحت مواضيع مثيرة للجدل لم تلقَ اتفاقا في أوساط الضباط الأحرار على طاولة نجيب، بدءًا من كيفية إدارة البلاد بعد رحيل فاروق، وصولا إلى كيفية طرد البريطانيين الذين كانوا يحتلون مصر منذ عام 1882

وتولى أنور السادات منصب الرئاسة بعد ذلك كثالث الضباط الأحرار الذين حكموا مصر بعد عام 1952. وخلف عبد الناصر عام 1970. وبقي رئيسا حتى اغتياله في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1981. وشهدت رئاسته حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 مع إسرائيل وزيارته عام 1977 إلى القدس، التي تلتها اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 التي تم التوقيع عليها في حديقة البيت الأبيض مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن. وتولى نائبه وخليفته محمد حسني مبارك حكم مصر منذ عام 1981 حتى الإطاحة به مؤخرا في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011. وتفصل بين رئاسة السادات ورئاسة مبارك فترة ثمانية أيام، كان فيها رئيس مجلس الشعب صوفي أبو طالب القائم بأعمال الرئاسة.

أعاد حسني مبارك مصر إلى الحضن العربي بعد طردها من جامعة الدول العربية ردا على اتفاقيات كامب ديفيد، مما ساعد على جذب استثمارات عربية وأجنبية كبيرة خلال التسعينات. وأشعل تقدمه في السن، إلى جانب الصعود السياسي لابنه جمال كخليفة محتمل، الثورة المصرية التي أدت إلى الإطاحة به في عام 2011، في أعقاب الثورة التي أطاحت بنظيره التونسي زين العابدين بن علي. وأدار مجلس عسكري برئاسة المشير محمد حسين الطنطاوي مصر في الفترة من 11 فبراير/شباط 2011 حتى 30 يونيو/حزيران 2012. وخلفه محمد مرسي، أول رئيس مدني يحكم مصر منذ عام 1952، والذي كان أيضا عضوا بارزا في جماعة الإخوان المسلمين. إلا أن فترة ولايته كانت قصيرة، حيث أطيح به لاحقا في تظاهرات عارمة في 3 يوليو/تموز 2013. وخلفه القاضي عدلي منصور كرئيس بالإنابة حتى أصبح المشير السيسي رئيسا رسميا للبلاد في 8 يونيو/حزيران 2014.
 

كان مفهوم الجمهورية جديدا ولم يسمع به أحد على الإطلاق. وعبّر رجال الدين المصريون من الأزهر في البداية عن استيائهم من مفهوم الجمهورية، زاعمين أن الإسلام لم يعرف مثل هذا الشكل من أشكال الحكم 

تغيرت مصر على مر السنين، وتغيرت معها الجمهورية ومؤسساتها الكثيرة. عندما أصبح محمد نجيب رئيسا في عام 1953، لم يكن هناك مستشارون في الرئاسة أو حرس جمهوري أو أي من الترتيبات الأخرى التي تطورت في عهد عبد الناصر.

كان مفهوم الجمهورية جديدا ولم يسمع به أحد. وعبّر رجال الدين المصريون من الأزهر في البداية عن استيائهم من مفهوم الجمهورية، زاعمين أن الإسلام لم يعرف مثل هذا الشكل من أشكال الحكم منذ أيام النبي محمد. وافتقر نجيب إلى خبرة الملك فاروق الدولية ولم تكن لديه عائلة يعتمد عليها. لم يكن لديه شيء من شخصية عبد الناصر الفاتنة أو طموحات السادات الدرامية. وفي عصر الإذاعة والسينما، كان خطيبا بسيطا، لكنه كان أيضا رجلا محترما ذا نوايا طيبة يرغب في أن يظهر كشخصية أبوية لجميع المصريين. أراد نجيب أن يكون التحول من النظام الملكي سلسا ودون دماء، مفضلا تسوية أوضاع النخبة السياسية القديمة، بدلا من مصادرة ثرواتهم وإرسالهم إما إلى السجن أو إلى المنفى الدائم.

AP
مصريون يتظاهرون احتجاجا على الحكم البريطاني لمصر والسودان سنة 1951

وتساءل كثيرون: ماذا لو بقي محمد نجيب رئيسا ولم يُسقط في عام 1954؟ ما الذي كان سيتغير في جمهورية مصر؟ ما الذي كان سيفعله عبد الناصر الطموح؟ هل كانت مصر ستنهض لقيادة الأمة العربية كما فعلت في أعقاب أزمة السويس عام 1956؟ وهل كان العرب سيذهبون إلى الحرب في عام 1967 لو لم تقم مصر بهذا الدور؟

لا أحد يملك إجابات معقولة لهذه الأسئلة.
 

font change