من النّادر أن تصادف كتابا مفردا أولاه النّقد الفنيّ العربيّ لمَراسم الفنّانين التّشكيليين، وأمّا الكتابات الإبداعيّة المتشابكة مع الفن التشكيليّ من خلال فضاء المرسم، سواء من لدن روائيّين أو قصّاصين أو شعراء. فالتجارب شبه وفيرة كميّا، ولكنّها استثناءاتٌ يتقشّف ظلّ حضورها الجماليّ نوعيّا.
إذْ يخصّ المرسم الفنّانَ التشكيليّ وحده، كفضاء سحريّ لعمله الفنّيّ، مطبخه السرّيّ، كهفه الذي تضيئه أزهار عبّاد الشّمس، فهو في الوقت ذاته يعنينا لا كمتذوقين ومتلقين، لا كباحثين ونقاد، لا كمتابعين ومهنيّين وحسب، بل كمدنيين عاديين أيضا، أو كسكان لبلدات عاش أو أقام فيها رسّامون مريبون من ذوي الأثر الإنساني ذائع الجمال.
يعنينا المرسم كجزيئة فضائية لا تتجزّأ من الخارطة المعماريّة للمدينة. يعنينا المرسم كمكان أيقونيّ يسبغ على حياة البلدة معنى جديدا، مضاعفا. يعنينا كأثر فنّيّ بالغ الالتباس والغواية، إذ ينتصب غامضا في الخلفيّة كمنطقة كواليس مثيرة للفضول والسؤال من جهة، ومن جهة هو صندوق أسرار لا يمكن لبورتريه المدينة أن يكتمل إلا بالاحتكام إليه فضلا عن جوار غرف الكتّاب (روائيون وشعراء و...) التي شهدت إنجاز أبدع النصوص، منازلهم وإقاماتهم وفنادقهم وحاناتهم... إلخ.
يخصّ المرسم الفنّانَ التشكيليّ وحده، كفضاء سحريّ لعمله الفنّيّ، مطبخه السرّيّ، كهفه الذي تضيئه أزهار عبّاد الشّمس، فهو في الوقت ذاته يعنينا لا كمتذوقين ومتلقين، لا كباحثين ونقاد، لا كمتابعين ومهنيّين وحسب، بل كمدنيين عاديين أيضا
لا نهتك خصوصية المرسم المشروطة للفنّان وحده، بأن نجعله مزارا عامّا بعد مماته، وهذا حاصل عموما في أكثر من بلد عالميّ، بل الملمح إليه كما في التوطئة أعلاه، هو أن مراسم الفنانين التشكيليين قيد حياتهم جديرة بكتاب مفرد معنيّ بموضوعها حصرا، بالنظر إلى استئثارها بسحرية فنية رهيبة، بغرابة وجودية، بعتمة رموز مطبقة وضباب علامات تترف بها أحوال طقوس ألغازها، في مغاور عزلتها الكابوسيّة.
في مقدمة ألمع من كتبوا عالميّا عن مراسم هؤلاء السّحرة، الكاتب الفرنسي المتعدّد جان جينيه، وبالذات حول مرسم ألبرتو جياكوميتي المعنون بـ "الجرح السري، مرسم ألبرتو جياكوميتي"، وقد ترجمه محمد برادة إلى اللغة العربية سنة 2003.
يتقصّى جان جينيه مرئيّات أعمال جياكوميتي من خلال معايشته لمناخ المرسم المرعب، مستغورا الجرح المتفرّد للكائن إزّاء الجمال، حيث الارتداد إلى العزلة هو فنّ إضاءة المنطقة السرية من أثلام الكينونة.
ما يشبه سفرا في تاريخ الحفر، ينزع جان جينيه في افتتانه بالتماثيل الكابوسيّة، إلى رسم خارطة مسرح للفزع يمتدّ إلى أقبية الفراعنة، مرورا بدهاليز الإغريق، فيما يشبه احتفالية كبرى بالموتى.
في مرسم جياكوميتي ينتصر البرونز (نساؤك انتصار للبرونز على نفسه)، يخاطبه جان جينيه في محاورات تجمعهما ذات انزياحات فلسفية، استعارية تتوسل بالشعرية الصّادمة الإمساك بالشيء الواقعي المتخفّي خلف المجاز، حدّ أنّ النحات يتماهى مع بؤس كلبه البرونزيّ الشهير وعزلته، حدّ أنّ ما يخفيه النحات إن عمدا أو سهوا يضاعف من جمال الرعب، وهو ما اكتشفه جان جينيه بينما كان ينحني ليلتقط سيجارته التي سقطت على الأرض وما أن سدد نظرة تحت الطاولة فتنه وجود تمثال يجلله الغبار، كما لو كان فرعونيا مدفونا بعناية، وذلك ما يجعل تماثيل جياكوميتي تخاطب الموتى أكثر مما تخاطب الأحياء.
لا يهمل جان جينيه رسم إحداثيات المكان، هندسة المرسم والغرفة مسكن جياكوميتي الطاعن في الصمت والعزلة والموت، راصدا بعين الروائيّ والمسرحيّ والشّاعر أسرار الغرابة التي يكتنزها ظلّ الفضاء المستشري.
لا ينفكّ المرسم بملء تماثيله البرونزية يلهب مخيلة جان جينيه المتواطئة على سبيل التأويل الحميم مع تاريخ عتمات المواخير، مسجّلا بلذوعية: "الماخور هو ما تستطيع فيه المرأة أن تزدهي بجرح لن يخلصها قطّ من العزلة"، إنّه تأمّلٌ جارح من ضمن ملاحظات لاهبة قدحتها مرثيات جياكوميتي نفسه وهو يتأسف في محاوراته على المواخير المنقرضة، إذ يتحدث عن نساء مرسمه المنهكات بقسوة الوحدة.
يستدعي جان جينيه الفيلسوف جان بول سارتر في محاوراته بالموازاة حول مرسم جياكوميتي دائما، ولا يفتأ أستاذ الوجوديّة أن يصوغ بألمعية عتيدة، قلق النحات في شذرة لاسعة على هذا النّحو: "إنّ حلمه هو أن يختفي تماما وراء عمله".
لا يقف جان جينيه في المرسم عند لعبة لمس التماثيل المرعبة والغامضة، بل يشمل اللوحات بعناية الانتباه والقراءة المستغرقة، مجترحا ما يَسمه بعنوان لافت "الشيء اللامرئيّ".
لا يهمل جان جينيه رسم إحداثيات المكان، هندسة المرسم والغرفة مسكن جياكوميتي الطاعن في الصمت والعزلة والموت، راصدا بعين الروائيّ والمسرحيّ والشّاعر أسرار الغرابة التي يكتنزها ظلّ الفضاء المستشري
كما لا يفوت جياكوميتي أن يكافئ جان جينيه بأن يرسم له بورتريها، وفي طقس الرسم تنزاح المحاورات صوب البوح القصيّ الشبيه بالتعري، إذ لا يتورّع النحات في الكشف عن حميمياته المريبة وغرامياته الشّائهة، ومنها عشقه لمتسكعة عجوز، طالما أبصر الأورام التي تحدّب جمجمتها الفارغة من الشعر، وهذا ضربٌ جانحٌ من جمال البشاعة أو القبح.
إلى أن يخلص جان جينيه إلى الفكرة الصلبة للعزلة التي تحتكم إليها أعمال جياكوميتي، إثر معايناته المتعاقبة من خلال يومياته في مرسمه، ويوجزها في مقولة لاذعة: "إن جياكوميتي لا يعمل من أجل معاصريه، ولا من أجل الأجيال المقبلة: آخر الأمر، هو يصنع تماثيل تفتن الموتى!".
ما أنجزه جان جينيه حول مرسم ألبرتو جياكوميتي نموذجٌ أمثلٌ من ضمن أعمال كبرى أفْردتْ لمراسم الفنانين التشكيليّين، ومنها ما هو أشمل تأريخيّا وتفصيلا مثل "فنانو المرسم" لجيمس هول، الذي يرصد أسطورة الفضاء الفني وواقعه منذ العصور الأولى إلى يومنا هذا. وكذلك منها ما هو نقديّ حواريٌّ مفصل مثل "داخل استوديو الرسام" لجو فيغ ويضم أربعة وعشرين مقابلة مع فنانين تشكيليين توثّق حصريا لبصريات مراسمهم الخاصة.
يتخلَّف المرسم كخندق لغرابة الخلق الفنّيّ بكامل سريّته في ما وراء المعلن من أعمال الفنّان في المتاحف والمعارض والغاليريهات، صاخبا بفوضى الأشياء الشبيهة بسرداب خردوات تزهر من مستنقعه نجوم الأبدية.