أجمل ما يمكن للأديب فعله على نحو خاص هو الارتحال، والذي غالبا ما يحمل معه التأملات والتساؤلات، يتعرف على المزيد من الأمكنة والناس، ويخوض معهم تجارب مغايرة، أجودها أن تأتي له تلك النزهات بهواجس فاتنة، لا بد أن تتحول مع الأديب إلى تأليفٍ جاد، فأثناء السفر ينقلب قلق الأديب إلى انشراح، وخيالاته المسافرة تمد له يد العون إلى ترجمة دهشته من تلك الرؤى المغايرة الظافرة إلى خيارات إبداعية وجمالية، نتيجتها سردٌ ساحر.
ولعل الكاتب الأميركي العميق "هيرمان ملفيل" نموذج المؤلف الذي كتب مجمل كتبه بعد ارتحال، ورؤى بحرية غير عادية، عززت خياله، حولت قلمه إلى أدب عظيم. كان ملفيل مسافرا رائعا، يحب السفر حول العالم منذ شبابه الأول، وكأنه عرف مبكرا أهمية المشاهدات الجديدة والسفر للارتقاء بالكتابة، وبالطبع ليس أي سفر، فالأسفار الفارهة لن تعطي مخيلته ما تعطيه الأسفار على متن سفينة مختلطة، تحمل البضائع والركاب معا، وتذهب به من جزيرة إلى جزيرة في تلك البحار الجنوبية من جزيرة "ماركيز" و"هاواي" و"ماواي" وصولا إلى جزر "غالا باغوس" وغيرها في أميركا القرن التاسع عشر.
كان ملفيل مسافرا رائعا، يحب السفر حول العالم منذ شبابه الأول، وكأنه عرف مبكرا أهمية المشاهدات الجديدة والسفر للارتقاء بالكتابة
فبالكاد بلغ العشرين من عمره وهو يعمل في صيد الحيتان، ويكتب ما يلحظ بعينه وقلبه، وانطلاقا من هذه الذاكرة الكفاحية التأملية، كتب عمله التراجيدي الرؤيوي الخالد "موبي ديك" وهي رواية الصراع بين الحوت والإنسان، مستبصرا صراعهما الوجودي، وكل ما يعكس الوضع البشري في كل عصر، و"موبي ديك" تُدرّس اليوم في معظم جامعات العالم، كأدب لا مثيل له، وبلا شك لن يكتب هذا الأدب النادر سوى من بدأ حياته المهنية في الارتحال حول العالم بحرا ليكتسب أكثر، لذا نجد جُل كتاباته تُعنى بالبحر، وبكل الأفكار المتخيلة الممكنة.
كم شعرت، حين قرأت أعماله الروائية، بنصوصه وهي تتجسّس على المناطق الخفية للوعي العاطفي، تتبعها أسئلة شفافة، وأستغرب اليوم لماذا نقده النقاد في زمنه، ولأن الكاتب إنسان حساس، وحزنه لا يشبه حزن الآخرين، تأثر ملفيل عما كُتِب عن أعماله، إلى درجة أنه كتب تحت اسم مستعار مجموعة قصصية نشرها على دفعات، في مجلة "بوتنام" الشهرية، ليرى من جديد آراء الناس والنقاد، فكانت كلها إيجابية، وبدوري قرأت تلك القصص العشر، وكأنه أراد أن يقنع نفسه أولا كيف يكون النقد حول كتاباته بعيدا عن اسمه.
كانت القصص العشرة كلها ضمن تلك الارتحالات البحرية، التي قام بها في بداياته، والتي نهل منها ما يكفيه، وكلها تصف تلك الجزر، منطلقا من جغرافيتها وإنسانيتها وتاريخها... ويبدو أنه سُحر بها، وفتنته تلك الأراضي الوعرة، وحيواناتها الغريبة، وحكايات القراصنة، وصيادين الحيتان، وغرق السفن... وقصص لا يمكن أن يكتبها سوى ملفيل المرتحل.
أصبح الناس يقرأون قصص ملفيل دون أن يعرفوا هويته، معلقين أنه كاتب رائع وكتاباته مثيرة للاهتمام، دون أن يحددوا حينها إن كان النص مقالا أو قصة أو أدب رحلات
الجدير بالذكر أن الناس أصبحوا يقرأون قصصه دون أن يعرفوا هويته، معلقين أنه كاتب رائع وكتاباته مثيرة للاهتمام، دون أن يحددوا حينها إن كان النص مقالا أو قصة أو أدب رحلات، وقد كتبها من وجهات نظر مختلفة، ففي القصص الأربع الأولى يصف بدقة الجزر، ومناظرها الطبيعية الوعرة، وسلاحفها البالغة من العمر قرنا، على الرغم من النغمة الشريرة التي يسرد بها، إلا أنه يخبرنا بحبه لهذا المكان الساحر. بينما تتمحور القصة الخامسة حول اكتشاف سفينة أشباح بقيادة القبطان بطل الرواية، وفي القصة السادسة يسرد كيف أن الجزيرة ملاذ للقراصنة من بين جميع الجزر، من حيث السعة والماء العذب والحطب والمأوى... إلى القصة السابعة التي نقرأ فيها عن ملك الكلاب غير المتوج، إلى الثامنة في جزيرة "نورفولك" وحاليا تسمى (جزيرة سانتا كروز) والمرأة المحاصرة بعد وفاة زوجها وشقيقها في انتظار مرور سفينة، إلى القصة التاسعة والناسك كشخصية نُبذت في جزيرة.. وأخيرا القصة العاشرة، وهي قصيرة جدا، عن الهاربين وشواهد القبور والمرثيات، والتي يصف فيها الكاتب مشاهداته أثناء سفره إلى مضيق في جزيرة من تلك الجزر.
كلّ قصص "ملفيل" استمدت مصادرها من مذكرات السفر الممتعة والمتعبة، التي نُشرت بعد وفاته، كتب أيضا فيها رحلته إلى إيطاليا واليونان وتركيا والقدس عام 1856، وبقي البحر أحد أهم عناصره الملهمة، وكافة ملاحظاته تبلورت في روايته أو ملحمته "موبي ديك"، وايضا في روايتي "ماردي" و"تايبي"، وهي الأعمال التي حققت نجاحا، ولكن ليس مع النقاد الذين هاجموه، ومع ذلك، وبعد وفاته بـ 30 عاما أجمعوا أن أعماله من أكثر الأعمال تأثيرا في القرن التاسع عشر، لتصبح أشهر رواياته قادمة من تراثه، أو فلنقل "تراث ملفيل"، وخبراته الشبابية الحاسمة، في سرده الصراعات برؤية فنية، ولم تكن هذه سوى حصيلة ارتحالاته البحرية وتأثيراتها، فكانت منقذة له روحا وأدبا، لتبقى التجوالات الجادة والتأملية وأساليبها غير الترفيهية، ملهمة ومعطاءة لكل كاتب جاد.