إيناس حليم: الأسطورة منبت الحكايات
"السيدة التى سقطت في الحفرة" تفتح صندوق الذكريات
إيناس حليم: الأسطورة منبت الحكايات
القاهرة: هل تصنع حكايات الجدات في عقولنا وأرواحنا ممرات للحنين والذكريات، تلك الذكريات التي ربما لا نشاركها مع أقرب الناس لنا أو ربما نحاول أن نتناساها أو نبقيها سرا في صندوق بعيد. هذا ما طرحته الكاتبة المصرية إيناس حليم في روايتها "السيدة التي سقطت في الحفرة" الصادرة في 2023 عن "دار الشروق" بالقاهرة.
حكت "ماما ماري" لحفيدتها شادن عن حادث انشقاق الأرض وسقوط ميرفت في حفرة وعدم العثور عليها رغم كل الجهود. قضية "ميرفت أحمد شحاتة" شغلت الرأي العام المصري لفترة طويلة وما زالت القصة المعروفة باسم "عروس النبي دنيال" متداولة حتى الآن. في الرواية، تذكر الجدة هذه الحادثة بوصفها شاهدة عليها، فهي تسكن في الشارع نفسه ولكنها لم تكن تعلم أن حفيدتها ستتشبث برغبتها في معرفة هل ما حدث كان حقيقة أم مجرد أسطورة لا أساس لها، هل حقا يبتلع شارع النبي دانيال بالإسكندرية الفتيات؟ ظلت الجدة تنكر "وتفتكري إني عارفة نهايتها؟"، حتى وفاتها. ورغم ذلك كانت الجدة بداية القصة ونهايتها.
عبر التاريخ
يعد شارع النبي دانيال أحد أقدم شوارع الإسكندرية، فقد كان الطريق الرئيس في عهد الإسكندر الأكبر، وبمرور الزمن لم تعد أهمية الشارع تاريخية فحسب، بل باتت له قيمة إنسانية كبرى إذ يضم آثار معابد رومانية، والمعبد اليهودي، والكنيسة المرقسية الأقدم في أفريقيا، بالإضافة إلى مسجد النبي الدانيال والذي يعد أحد أقدم المساجد في الإسكندرية. ويشاع أن الضريح الموجود أسفل المسجد هو ضريح النبي دانيال، إلا أن بعض المؤرخين يشككون في هذه الرواية ويقولون إن الضريح يخص الشيخ محمد بن دانيال الموصلي وهو عالم دين جاء من العراق. أسطورة عروس شارع النبي دانيال بالإسكندرية ليست الوحيدة في هذا الشارع، فهناك أسطورة أخرى تخص مقبرة الإسكندر الأكبر، والتي يعتقد بعض المؤرخين أنها تقع في باطنه، نظرا لوجود العديد من الآثار الرومانية بالإضافة إلى المقبرة الملكية.
تقول حليم لـ "المجلة": "لم أشعر أن الأسطورة حية، فمعظم سكان الإسكندرية ينكرونها إلى يومنا هذا، وكثيرون منهم لا يتذكرون سوى أنه كانت هنالك حفرة في ذلك الشارع في سنة من السنوات، ولم أجد شخصا استطاع تحديد اليوم أو حتى السنة بدقة، وأقصد هنا سكان المدينة أنفسهم وليس الأرشيف الصحافي. وبعضهم ما زال ينكر أن أحدهم سقط في تلك الحفرة ويُحيلون الأمر إلى أنها كانت شائعة مقصودة من الحكومة وقتها لأسباب سياسية، بل أن بعضهم يُنكر أصلا أنه كانت هنالك حفرة انفتحت في ذلك الشارع. بحثتُ كثيرا كي أحصل على تاريخ الحادثة وعلى أي صورة لميرفت أو أي معلومة تخصها وتخص أهلها وبيتها، وأنا نفسي كنتُ أتعجب من أن تلك المعلومات البسيطة التي من البديهي أن تكون مؤرّخة وموثقة أو حتى عالقة بذاكرة أي ساكن من سكان الشارع، كانت شحيحة بشكل لا يُصدق خلال فترة البحث، وكأن ميرفت لم يكن لها وجود ولا أهل ولا بيت، وكأنها لم تكن من سكان الإسكندرية!".
لم أشعر أن الأسطورة حية، فمعظم سكان الإسكندرية ينكرونها إلى يومنا هذا، وكثيرون منهم لا يتذكرون سوى أنه كانت هنالك حفرة في ذلك الشارع في سنة من السنوات، ولم أجد شخصا استطاع تحديد اليوم أو حتى السنة بدقة
إيناس حليم
الأساطير
تجعل الكاتبة الغرائبية مدخلا سرديا لنصوصها الأدبية ليس في هذه الرواية وحسب، بل في عمليها السابقين أيضا. ترد إيناس حليم على هذا الطرح: "الأسطورة منبت الحكايات، فهي حكايات تنتقل من زمن إلى زمن ومن مجموعة أشخاص إلى مجموعة أخرى لتستقر في الذاكرة الإنسانية، بصور وأحداث وأساليب رواية مختلفة، وتبقى في النهاية الحكمة التي تُصاغ من خلال ثقافة هذا الشعب أو ذاك على هيئة حكاية. الأساطير اليونانية والرومانية والهندية، وأساطير المايا والإنكا والأزتيك وغيرها.. كلها أرادت أن تُخبر حكمة. حكايات ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة وكل ما خلّفته الحضارات من حكايات شعبية أرادت أيضا أن تُبلغ حكمة. في النهاية تتخذ الأسطورة وغيرها من تلك الحكايات شكل وعاء حامل للحكمة أو الفكرة وهذا ملهم جدا".
ترى حليم أن قصة عروس النبي دانيال في روايتها الأحدث أمر مختلف: "لم يكن ما حدث مع ميرفت أحمد شحاته أسطورة بل إن بعض سكان المدينة هم من ألبسوا تلك الحادثة رداء الأسطورة لأنهم لم يستطيعوا تصديقها، وبتلاشي حقيقة حدوث الأمر بناء على عدم منطقيته، تلاشت في أذهانهم حقيقة أن الفتاة كانت موجودة بالفعل، وهذا بالضبط ما شغلني. مساحة الشك بين حقيقة الأمر وبين اعتباره مجرد خيال، والبحث وراء تلك الحقيقة لأنها في النهاية لا تخص فتاة النبي دانيال وحدها، فاختفاؤها بذلك الشكل الغامض وتجاهل الناس لحقيقة وجودها لسنوات، أنبتا في ذهني أفكارا كثيرة تخص تيمات مثل الاختفاء والضياع والمعاناة والشعور بالوحدة، انعكست جميعها على شخصيات الرواية".
تلصّص
الأمومة لم تكن يوما مجرد عملية بيولوجية تقوم بها المرأة، وليست فطرة مثلما يظن الكثير من الناس. في الرواية، تعاني "شادن" من انقطاع الوصل بينها وبين أمها نور الهدى "كانت أمي كلما صفعتها الحياة بحثت بدورها عن شيء آخر لتصفعه، وكان ذلك الشيء دائما هو أنا". في الوقت نفسه تظن الأم أنها حاولت دون جدوى "لكن شادن لا تفهم ذلك، لم تفهمه ولا مرة على الرغم من كل محاولاتي اختراق عالمها المحصن بتعاويذ جدتها وأحلام مراهقتها وأفكار أبيها المحرضة على كراهيتي". ربما تعطي نور الهدى أو "الكاتبة العظيمة" كما تطلق عليها ابنتها مبرّرات لعلاقة غير مريحة إطلاقا لكلا الطرفين. ورغم ذلك تقرّر الأم أن تجبر ابنتها على كتابة رواية فشلت في كتابتها. ومنحتها في عيد ميلادها الواحد والعشرين الصندوق الذي سيفتح مجالا لكل التأويلات إلا حقيقة ما حدث لميرفت عروس النبى دانيال.
هل التلصص على البشر جزء من شخصية المبدع؟ هذا ما ورثته البطلة من أمها. الأم تتلصص على الناس من الشرفة أما الابنة فهي اكثر انخراطا في المجتمع، تنزل إلى الشارع فتتأمل الوجوه والملامح. كذلك لديها قدرة أكبر على طرح الأسئلة في محاولة للحصول على الإجابات التي تريدها. الرغبة في معرفة تفاصيل الحكاية تدفعها إلى تقمص شخصية المخبر فلم تكتف بقراءة كل ما كتب حول الحادثة في أرشيف الجرائد والمجلات بل ذهبت بنفسها إلى أهل الضحية.
كل ما خلّفته الحضارات من حكايات شعبية أرادت أن تُبلغ حكمة. في النهاية تتخذ الأسطورة وغيرها من تلك الحكايات شكل وعاء حامل للحكمة أو الفكرة وهذا ملهم جدا
إيناس حليم
تقاطعات
تتقاطع الكاتبة مع بطلة روايتها، فكلاهما كاتبة وكلاهما من مدينة الإسكندرية. تقول إيناس حليم: "ثمة تماس بين حياتي وحياة شادن بطلة الرواية في أننا كلتانا من الإسكندرية، وكلتانا خاضت رحلة البحث عن عروس النبي دانيال كي تكتب حكاية، لكن كلا منّا أرادت أن تكتبها بشكل مختلف. شادن أرادت في الأساس أن تكتب عن السيدة التي سقطت في الحفرة معتبرة أن روايتها لسيرة جدتها وأمها وأبيها وعمتها وحتى حبيبها يحي.. كلها حكايات على هامش الرحلة. أما أنا فأردتُ أن أروي حكاية شادن وكل ما يحيطها توازيا مع رحلة البحث عما حدث لتلك السيدة، وإذا قرأنا الأمر بشكل صحيح، أو بالشكل الذي قصدته، فإننا سنجد أن المتن بالنسبة إلى شادن كان هو الهامش بالنسبة إليّ والعكس.وبالنسبة إلى رحلة البحث عن حقيقة الفتاة والحادثة فكل منّا حملت تفاصيل مختلفة عن تلك الرحلة، فالخطوات التي مشتها شادن بعضها مررتُ به فعليا كباحثة وكاتبة للنص وبعضها اختلقته. أمّا فيما يخص محيط شادن وتفاصيل بيتها وأسرتها وتاريخ الجدود والجدات والبيت الكبير وكل الشخصيات المحيطة، كلها تفاصيل وشخصيات من خيالي وبعيدة عني تماما. هذا فيما يخص الخط الواضح لحياة شادن، أما بخصوص ما يشارك اللاوعي في كتابته داخل السرد الروائي من أفكار ومشاعر وصفات شخصية، فأعتقد أنني أتماس بشكل أو بآخر مع كل شخصية من شخصيات".
ربما يظل القارئ يلهث وراء البطلة رغبة في معرفة حل لغز حادثة مر عليها ما يقرب ثلاثة عقود، وهذا ما نجحت فيه الكاتبة، لكنها مع كل فصل تأخذنا إلى حكاية أخرى وكلما تعمقنا أكثر في دهاليز حياة شادن، نكتشف أنها عانت من ابتعاد كل من تحبهم عنها بإرادتهم أو بغير إرادتهم. رحلة تفتح خلالها صناديق ذكريات كل من تعرفهم. بداية من قصة زواج الجدة "ماما ماري" من رجل من غير دينها والفرار من حياتها القديمة في صعيد مصر لبدء حياة جديدة في مدينة الإسكندرية. ثم رحلة البحث عن والدها "الفنان التشكيلي" الذي ترك البيت ورحل لسنوات دون أن تعرف مكانه، كذلك فعلت عمتها التي ذابت في الحياة دون أثر. مرورا بحياتها هي شخصيا وقصة حبها التي فشلت لأن الحبيب فضل أن يسافر للعمل في الخليج على أن يبقى معها: "باب درج صغير أفتحه كلما أردت التلصص على حياتي القديمة، أخبئ بداخله صندوق أسراري التي ظلت تتقلص تباعا بمرور السنوات". إذن نحن أمام رواية تبحث بعمق داخل الروح وهذا ما ألمحت إليه الكاتبة بأن أمها طلبت منها أن تشتري لها كتاب الرئيس المصري الراحل أنور السادات "البحث عن الذات" وقالت لها إنها تريده "لغرض بحثي".
"لا أريد أن أكتب رواية عظيمة، أريد أن أكتب رواية عذبة"، تقول شادن التي صنعت في روايتها الأولى حالة تشابك ربطت بين ماضي الشخصيات وحاضرهم وتوغلت في نفوسهم، وذكرياتهم والظروف الاجتماعية والسياسية لعام 1973 حيث وقعت الحادثة حتى عام 2003. وقد اعتمدت الكاتبة على قدرتها الكبيرة في استخدام لغة مشهدية لوصف الأماكن والأحداث من وجهة نظر البطلة. ومنحت الرواية نهاية مفتوحة لتسمح للقارئ بأن يشكّل سرديته الخاصة. في النهاية استطاعت الكاتبة أن تكتب رواية "عذبة" تماما كما أرادت "شادن" بطلة الرواية.
"حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة" هي الرواية الأولى للكاتبة إيناس حليم، التي ولدت عام 1983، تخرجت في كلية الهندسة، صدرت لها عام 2013 "يحدث صباحا" مجموعة قصصية، ومجموعة بورتريهات بالعامية المصرية عام 2014 بعنوان "تحت السرير".